عزيزي محمود ردايدة،
تناقشنا أخيراً في الموسيقى، وتحديداً في الشكل الذي يجب أن تكون عليه الموسيقى. كنّا آنذاك نجلس في «كانفاس» حيث كان يعقوب أبو غوش، وأحمد بركات، وطارق أبو كويك يعزفون مع فرقتهم الجديدة للمرة الأولى. كان من المفترض أنّنا نستمع إلى توليفة الجاز والعود التي لا تصدر من أيّ مكان آخر بهذا الشكل الطبيعي والعفوي إلا من عمّان.
لم نكن متلقّي موسيقى. كنا في تلك اللحظة جزءاً من هذه التوليفة. الفرق بين الهمس حين يخفت صوت العود، والصراخ حين يتحمّس أبو كويك على الدرمز، كان عنصراً لم ندرك أهميته إلا عندما انتهت الفرقة من العزف، وانضمّ إلينا أبو غوش معترفاً بأنّه يشعر بالكآبة إن لم يعزف لمدة طويلة.
تحدّثنا إذاً عن شكل الموسيقى. وكانت وجهة نظرك أن أيّ شكل للموسيقى يجب أن يتضمّن هيكلاً واضحاً يمكن غناؤه، أو عزفه على غيتار أكوستيك. كنتَ تتكلّم بثقة من تجربة خلقتَ بها واحدة من أوائل الفرق الأردنيّة المستقلّة: «جدل».

ما أقحمنا في هذا النقاش في البداية هو آراؤنا في فرقتين أردنيتين جديدتين، هما: «آخر زفير» و«المربّع». الأولى باكتمال شكل موسيقاها، والثانية بشكل موسيقاها غير المنتظم، وبالتالي غير القابل للتبسيط إلى درجة يمكن معها عزف أغنية من أغنياتها على آلة واحدة فقط.
ورغم أننا نبدو نقيضين، إلا أن الفرق بسيط جداً، يكمن في تفصيل واحد فقط: كيف ننظر إلى الموسيقى. أنتَ تتعامل معها على أساس أنها طريقة التعبير الوحيدة التي لا تكتمل إلا بها. أما أنا فأتعامل معها نفعيّاً؛ إذ كنتُ أنظر إليها ـــــ مثل كثيرين ـــــ كمستهلك.
حتى وجدت أخيراً أنني، كفرد، عنصر في هذا الشكل الموسيقيّ، وأن موسيقيين مثل جون كايج (1912 ــــ 1992، الصورة) يعيدون الاعتبار إلى الضوضاء اليوميّة التي نمارسها. ولأنه استغنى عن الشكل هذا، استطاع أن يجعل من سعال شخص أثناء مقطوعته «4’33» الصامتة تماماً جزءاً من صوت كونيّ أوسع.
إنّنا ننظر إلى الموسيقى من جهتيها المفتوحتين: أنتَ لا تريد أن تخسر وظيفتك كخالق مثاليّ، وأنا أريد أن أشوّش عليك خلقك. تريدها فرديّة تعبّر عن إحساس جمعيّ، وأريد أن أثبّت بوقاً كبيراً على الأرض لأسمع تشويشنا يخرّب على لا مبالاة الكون.