ليس اقتصاد السوق، وسلطة الشركات الضخمة العابرة للحدود، وألغاز البورصة، قدراً محتوماً... حتى وإن بدت مقاومة هذا الفخّ المحكم، ضرباً من الهذيان. هذا ما تقوله فيفيان فورستي (1925)، صاحبة «العنف الاقتصادي: ديكتاتورية الريعية». الذي يبدو راهناً رغم مرور 15 عاماً على صدوره (جائزة ميديسيس ـــ باريس، 1996، عرّبه سليمان حرفوش أخيراً عن «دار كنعان»، دمشق). في كتابها لا تتوقف الناقدة والروائية الفرنسية عند حدود مواجهة هذه الصيغة السلطوية الغامضة التي تميل إلى تكديس الثروات، وتحقيق الأرباح الطائلة عن طريق طرد الموظفين، وزيادة الريعية تحت شعار «إعادة الهيكلة».
فهي ترى أنّ التحكم في إدارة العولمة الأرضية، ليس نتيجةً حاسمة لما يسمّى ما فوق الليبرالية، إذ تؤدي فوضى عالم الأعمال دوراً في ذلك. إضافةً إلى اقتصاد سوق انزلق في مهاوي الاحتكار، والمضاربة والأنشطة المافيوية، لكنّ هذه الحال لا تعبّر عن انتصار نهائي للعولمة الاقتصادية، ذلك أن إخفاقاتها تكمن في غموض هويتها. ما نجده اليوم ـــ وفقاً لصاحبة «كذا حال المنفيين» ـــ هو اقتصاد افتراضي، يقوم على المجازفات والمضاربات لبضاعة غير موجودة في الأصل، وذلك عبر مناقلات وهمية، يجري التلاعب بها، وتهريبها تحت غطاء التنافسية. تالياً فهو اقتصاد هستيري لا فعالية فيه، «ينهض على قبض ربح، والنتيجة: أرباح مبهرة في زمن قياسي».
الحلم الليبرالي أنتج إذاً، تجمعات احتكارية عملاقة ومتعجرفة وخاوية، أدّت إلى البؤس الجماعي في بلدان كثيرة، بعد طفرات متوهّمة (المعجزة الآسيوية مثلاً). لمواجهة هذه الضغوط القسرية تدعو فيفيان فورستي إلى «تحطيم قيود الدعايات الترويجية الممسكة بأعناقنا»، ورفض الانجراف مبهورين في سياق هذه الدعاية المضلّلة لتشريع ديكتاتورية الريعية. ففي ظل تلك الريعية الوحشية، المهووسة بالافتراس والقنص والعمليات المنحرفة، يجري تخريب شروط العمل بقرارات تعسفية وكارثية، من دون النظر إلى الوراء لإحصاء عدد الضحايا. منظومة غير مرئية تتلاعب بمصير العالم، كأنها «ديكتاتورية بلا ديكتاتور»، فرضت نفسها بقوتها المالية، وتحطيم استقلالية أصحاب القرار، وتشديد الخناق حولهم بقوة الإرهاب المالي. طبقة سياسية وجدت نفسها محاصرة بقيم راسخة، لا تتيح لها أن تتنشق الهواء خارج أسوار النادي الذي يحكم قبضته على النقاط العصبيّة الحسّاسة المتحكمة في المجموع. هكذا باتت مفردات مثل «تسريح، إعادة هيكلة، تغيير موقع العمل، دمج، خصخصة، مضاربة»، أموراً اعتيادية، لا بل إنّها «تقدَّم بوقاحة على أنها الأصلح». وبهذه الطريقة، يجري الالتفاف على قوائم البطالة في العالم بطرق مختلفة، حتى لو تجاوزت هذه الطرق المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. فالعيش تحت خط الفقر، لم يعد موضوعاً مثيراً للاستغراب. المهم هو جني أكبر قدر ممكن من الضرائب.
تنبه فيفيان فورستي إلى أن البؤس الذي يجري تعميمه عالمياً، أوقع الكرامة الإنسانية إلى الحضيض، وذلك باحتقار العاطلين من العمل، مقابل تشجيع العمالة الوهمية مهما كانت أجورها بخسة، وتشبه طبخة حصى. لا يتوقف الرعب هنا، علينا أن نضيف إلى كلّ ما تقدّم الفواتير الباهظة، وألعاب صندوق النقد الدولي بخصوص جدولة الديون، على حساب برامج الصحة والتربية والبيئة والقدرة الشرائية. وتتساءل صاحبة: «هذا المساء، من بعد الحرب»: «ألا يمكن شطب الديون أو خفضها من دون إيذاء أحد؟». وفي تحليلها لظاهرة البطالة، ترى أنّ النظام ما فوق الليبرالي سعى إلى اختراعها على نحو يتيح للاقتصاد الخاص أن «يضع نيره في عنق سكان الكوكب الأرضي، مع الحفاظ الكامل على «الوئام» الاجتماعي، وترسيخ فكرة الخضوع»، لكن ماذا عن المستهلك؟ تجيب الكاتبة أنّ المستهلك فقد سيطرته في ظل التنافسية الشرهة، وعمليات الاندماج بين التروستات الضخمة التي بدأت تمثل حقبة جديدة من «تطوّر الأوليغاريشية ما فوق الليبرالية». وبالتالي، فإنّ الزبون أينما اتجه، سيستهلك بضاعةً ذات مصدر واحد، وإن تعدّدت أصنافها، وطريقة إعلان مزاياها الخاصة. ثمّ تأتي قروض البنك الدولي، لابتلاع ما بقي من أمل، بشروط مجحفة توجّه الفلسفات السياسية للدول الفقيرة بنوع من الإملاء الصارم: «خصخصات، تجاوزات، إلغاء المعونات في القطاعات الاجتماعية». وإذا بهذه الدول تجد نفسها أمام «كتاب صلوات وحيد»، يختزل جميع مقاييس المجتمع إلى مقياس واحد: الريعية وحسب. ريعية مقصورة على ما يعود بالربح على الدائنين فقط، ما يجعل الدول المدينة محميّات مكبّلة بقيود صلبة. فالميزانيات تُدار من الخارج عبر أناس يتلاعبون بأضخم الأموال التي جرى اقتطاعها من دافعي الضرائب.
تراهن فيفيان فورستي في أطروحتها النقدية على إعادة تكوين الرأي العام، وإسماع صوته الغاضب والساخط عمّا يحاك له من مؤامرات لخنق تطلعاته نحو عالم مختلف، لا تتحكم فيه الشركات العملاقة. هذه الصرخة التي أطلقتها الكاتبة الفرنسية منذ سنوات، قد نجد صداها الآن في احتجاجات الشارع الأميركي على سياسات «وول ستريت»، والاحتجاجات التي تشهدها شوارع أخرى في مدن العالم.