عمّان | يصل الزائر إلى «دارة الفنون» الواقعة في أحد أقدم أحياء عمّان، ومن هناك يطلّ على مشهد تلال المدينة المتوالية الشهير. مشهدٌ وصفته سينمائيّة لبنانيّة شابة بأنّه يشبه «المسرح»، فيما قال عنه سينمائي مصري شاب إنّه كـ«طبقات تنكشف كلّما توغّلت فيها». تبدو الحاجة ملحّةً إلى الاستعانة بعيون غير عمّانيّة، خصوصاً أنّ العاصمة لا تنكشف لسكانها بسهولة، على اساس أنّها مكان موقّت وطارئ، يمكن هجرانه من دون ذنب. وهذا جدل يقع في صلب الهويّة العمّانيّة تحديداً، خصوصاً أنّ المدينة التي خلقتها الحاجة إلى مكان آمن، لا تفرض هويّتها على أحد، بل تحتضن ساكنيها: تجّار الحنين، بمعايير المدن المعاصرة.
«دارة الفنون» تعرض أعمال فنّانين من لبنان والأردن: المصّور الفوتوغرافي فؤاد خوري، الفنانة البصرية والمعمارة صبا عنّاب، يلتقيان حول فكرة عمّان: نموّها وماضيها ومستقبلها. ففي خريف 1987، قام فؤاد خوري (1952) بتصوير مناطق مختلفة من العاصمة الأردنيّة، بتكليف من «معهد العالم العربي في باريس». المشروع المهتمّ بتوثيق الامتداد الحضاري للمدينة، لم يعن يومذاك الكثير لسكّانها. الآن بات من الأسهل أن نلاحظ الأبعاد المستقبليّة لهذه الصور، ونحن نكتشف مدينةً أخرى بالأبيض والأسود، مدينة نسيها الزّمن، وطردت الأيديولوجيّات... ففي مكان آخر من المدينة، وفي ذلك الوقت الغابر نفسه، كانت تقام قمة عربيّة غير عادية، رفضت «المحاولات الرامية إلى المساواة بين الإرهاب وحركات التحرّر الوطنيّة، وحقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال». بينما تُظهر الصور أبنيةً وشوارع وأفقاً يتسلّل إلى أحيائها، وقد تعمّد خوري أن يصوّرها خالية من الناس إلا نادراً. هذه هي عمّان: مدينة بناها سكّانها وتنصّلوا منها. مدينة سيعثر عليها بعد قرون وهي محنّطة ـــ كما قال أدونيس مرّة.
هذا ما تشير إلىه الفنانة الأردنيّة صبا عنّاب (1980). في مشروعيها المستمرين «أرض بلا خراف»، و«عن توق دائم»، تتابع تخريبها للمفهوم المعاصر للمدن، وذلك من خلال البحث عن مدى تأثير «موقتيّة هذه المدينة على نموّها أو تضخّمها في سنوات تشكيلها الطارئة». وترى المعمارة في عمّان «مدينةً تقدّم نفسها واقعاً أو حالة موقتة ودائمة في الوقت نفسه». سبب الاختلاف بين إيقاع علاقة الفرد بمدينته، وإيقاع تخطيط المدينة وتطويرها، هو، بحسب عنّاب، قدرة الطرفين على الاستهلاك التي انحصرت حول الحاجات الأساسيّة في السكن. لهذا، تُحلّل الفنانة في مشروعها «عن توق دائم»، صراع القوى بين المكان وسكانه. كذلك ترصد الاختلالات السكّانيّة المفاجئة التي أدّت إلى التخبّط في بناء هيكل المدينة، وما يضفيه من إحساس بالإقصاء.
في سلسلة خرائط ورسوم، ثمّة هدم جديد للخراب الذي سبّبته فوضى التنظيم، من خلال إقحام فواصل وعوائق على المشاهد الحضريّة. ينهب الفولاذ المشهد كله، ويحيله إلى مشهد متخيّل عن مدينة، ستبقى رهينة إعادة الإعمار الدائم... تكتب عنّاب على هامش إحدى الرسوم: «بمساحاتها الفارغة، وشوارعها الممتدّة، ومراكزها التجاريّة الممتلئة، تعاني عمّان من عدم الاتّساق في مقاييسها: غرورها وتمثيلاتها وتناقضاتها، والمتخيّل الحقيقي والريفي المتضخّم والموقّت الدائم . هذا كلّه ـــ تتابع ـــ يختفي في عقول الناس قبل أن يختفي في عقل المخطّط والمستثمر والسلطة». وفي سكتش تخطيطي آخر، ترسم عنّاب مخطّطاً لتنظيم حَضَري فوضويّ من بُعدٍ أماميّ. مجرّد خراب يدّعي أنّه مدينة. هنا يمكن رصد صراع القوى الذي تتحدّث عنه الفنانة، إذ تتجسّد السلطة السياسية أو سلطة المال والنفوذ في كتلة كبيرة، تشكّل تهديداً للفراغ من حولها. بينما يستقرّ باقي النفوذ والسلطة في عشوائيّات لا شكل لها. يستمدّ العمل جماليته من ادّعائه، ومن ذلك اللعب على مفهوم التضخيم المفرط والمتكلّف. وهذا تحديداً الفن الذي تصفه الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ بأنّه «شكل مضخّم من اختبار العالم بوصفه ظاهرة جمالية...».
في النهاية يمكن اعتبار هذه التجربة ناجحة، لكنّها غير مكتملة مفاهيميّاً، إذ تحتاج مشاريع صبا عنّاب إلى رديف تنظيري وبحثيّ. وهو ما يمكن تحقيقه بالبدء بتوثيق هذه الأفكار وطرحها في بحث حول العلاقة بين المدن وساكنيها. هذه المدينة التي تؤمن عنّاب بأنها «متخيّلة ولا توجد خارج الاستوديو الخاص بها، أو منازل المقربين منها». أما الحل فيكمن في «حقّ العمّانيين بأن يكونوا جزءاً من هذا الزّخم، وهذه المساحة العامّة التي نسمّيها عمّان».

«معرض فؤاد خوري وصبا عنّاب»: حتى 2 كانون الثاني (يناير) 2012 ـــ «دارة الفنون/ مؤسسة خالد شومان» (جبل اللويبدة، عمّان). للاستعلام: 0096264643251
www.daratalfunun.org



فوق ركام «البارد»

في أعمال صبا عنّاب، يأخذ التضخيم شكلاً جديداً في مشروع «أرض بلا خراف». أعمال هذا المشروع مستوحاة من عمل المعمارة والفنانة البصريّة الأردنيّة في إعادة إعمار مخيّم نهر البارد (شمال لبنان). تقطع عنّاب هنا المسافات «الخالية» بين عمّان ومخيّم اللاجئين، وتفكّر بالتناقضات بين مشاريع المدن الموقتة، وبين تضخّم المناطق الريفيّة. مرّة أخرى، تقحم عنّاب أشكالاً معماريّة على الرسوم/ الاسكتشات، لترصد العلاقة بين القصور وكتل المخيّمات، والمساحة ما بينهما، باحثةً في الإقصاء الذي يتولّد من قسوة الفولاذ وحِدَّته. يحاول هذا المشروع معالجة مفهوم الأرض، ومعضلة «كيف نبني بدون أرض». وكانت عناب قد ألقت محاضرة حول هذه التجربة في دارة الفنون مطلع الشهر الجاري، بالتزامن مع المعرض.