عبارة منسوبة لبيكاسومن أغرب ما قرأتُ هذه العبارة لبابلو بيكاسو مؤرّخة حزيران 1923: «لا يمكن الاكتراث لرجل يمشي وعيناه إلى الأرض، ينظر ما إذا كان الحظّ قد يضع على طريقه محفظة نقود».
كلامٌ ينمّ عن ازدراءٍ للكسل وتمجيدٍ لـ«العمل»، ويغسل يديه من فقيرٍ يَحْلم عوض أن يقتنص الفرص والنساء والرجال والأيديولوجيّات كما فعل بيكاسو وغيره.

يكنّ الفنّانون الحديثون، والحديثون عموماً، نوعاً من التقديس لبيكاسو. وهو، بشهادة الخبراء، أمهر اللاعبين. ولعلّه أخطر المجدّدين. لكنّ عينيه، اللتين اشتهرتا بجحوظهما، تفصحان عن جرأةٍ محسوبة، وتلاعبٍ بارد، وشطارةٍ «عربيّة». أمّا ساقاه وهو بالشورت، فقريبتان من نساء لوحاته اللواتي أجاد تشويههنّ.
يقول بيكاسو: «قضيتُ عمري وأنا أتعلّم التصوير كولد». الذي يحاول جاهداً استعادة الطفولة غالباً ما يرتكب تهريجاً قد يشبهها لكنّه لا يعدو كونه افتعالاً. الموهبة طفولة غير مُشْتَغَلة. والعبقريّة حالةٌ خارج التخطيط ولا تنطوي في ثنايا المراحل العمريّة.
لا أعرف ماذا يُسمّى فنّان خالٍ من الشفقة.



قضيّة فخر الدين
استعادت بيروت وصيدا في عهد الأمير فخر الدين الثاني مجدهما التجاري ودورهما البحري، وشجّع الأمير الزراعة فراحت صناعة الحرير وزراعة الزيتون تدرّان الأرباح الكبيرة على البلاد. وبسبب سماحه لفلورنسا بفتح قنصليّة في صيدا نقم عليه السلطان مراد الرابع وقرّر الخلاص منه. وهكذا، هاجم باشا دمشق على رأس جيوش غفيرة لبنان من الشرق وحاصره أسطول عثماني من جهة البحر... واستسلم الأمير بعد انهيار جيشه أمام ضخامة جيوش العدوّ، وبعد مقتل ابنه علي في وادي التيم، وأسلم نفسه للعثمانيين (1639) وبعدما اقتيد إلى دمشق نُفي إلى اسطنبول حيث مات مقتولاً.
يقول الأب لامانس «إنّ أحداً لم يحاول أن يحقّق الخطّة الكاملة للقوميّة اللبنانية كما فعل فخر الدين بمثابرة ونشاط. وعلاوةً على ذلك فإن تاريخ الأمير المعني يخصّ تاريخ سوريا بقدر ما يخصّ تاريخ لبنان (...) لكنه لم يفلح في توحيد عمل المتحرّكين حوله لصالح الاستقلال السوري. إن أحداً لم يفهم عظمة هدفه. فنزعاتهم الإقليميّة، هذا الداء السوري القديم، تسبّبت بهلاك الأمير اللبناني أكثر بكثير من موهبة جيوش أحمد باشا. فالذهنيّة الفرديّة هي التي أخّرت استقلال سوريا بضعة قرون. وفي هذه البلاد، التي ناءت منذ ذلك التاريخ تحت النير العثماني، بقي لبنان، ولبنان وحده، مخلصاً للقضيّة التي جسّدها فخر الدين. وليس بالأمر العجيب أن يكون تاريخ الجبل من بعده قد استوعب تاريخ سوريا».



أنيس منصور
كان أنيس منصور، في نهاياته خاصّة، يردّد، كمَن يعتذر، أنّه يكرّر نفسه، وللتبرير يستشهد بعبارةٍ يقول إن الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا قالها له مرّة: «الفنّان الحقيقي هو الذي يكرّر نفسه، لأنّ لديه معنى واحداً أو فلسفةً واحدة يعبّر عنها في ظروف مختلفة. الفنّان مثل البلبل: له أنشودة واحدة».
المدهش في هذا أن الكاتب المصري الذي غاب الأسبوع الأسبق عن سبعة وثمانين عاماً ملأها كتابةً من مختلف الأنواع وبقي مواظباً على ملء زاويته اليوميّة في صحيفة «الشرق الأوسط» حتّى الرمق الأخير، هذا الكاتب المعتذر عن أنشودته الواحدة لم يكن صاحب أنشودة واحدة.
تَنَقَّل بين الرواية والمقالة والدراسة والنقد والنشاط الإعلامي ولا أدري ماذا أيضاً تَنَقُّل السائح، وحتّى الفلسفة عرّج عليها، ولعلّ سواي من جيلي يذكر له كتابه عن الوجوديّة، وقد شَعْبَنها طبعاً أضعاف ما شَعْبَنَ جان بول سارتر فلسفات ياسبرس وهوسرل وهيديغر. والحقّ أن مؤلفات سارتر الفلسفيّة، كـ«المخيّلة» و«المُتخيَّل» و«الكينونة والعدم»، عصيّة على القراءة، بشهادة الأدباء الفرنسيّين، وقد يشفع لكتيّب منصور أنّه سهّل مقاربةً سطحيّة لموضوع رائج بين شبّان كانت لفظة وجوديّة تعني لهم «تسهيلات» وتمثيليّات لا علاقة لها بالفلسفة الوجوديّة. طبعاً لا صلةَ نَسَب بين كتيّب منصور ودراسات عبد الرحمن بدوي. أمّا الشبّان المصريّون والعرب الذين تعاملوا مع الوجوديّة كأنّها طراز جديد من الأزياء أو الرقص، فعذرهم أنّ ألوفاً من أقرانهم في فرنسا سبقوهم إلى التأويل ذاته.
تتميّز كتابات منصور بحيويّة وثّابة. كان معجباً بكباره، كالعقّاد وطه حسين وتوفيق الحكيم، وقرّاؤه أعجبوا به أكثر من إعجابهم بكباره، لأنّه أسهل.
قَلَمُ لحظة، يوهمك أنّه يُغْنيك، على سخريةٍ عمادها الخفّة، وتحليقٍ لا يزيد ارتفاعه عن تحليق فراشة.
ولعلّ نغمه الواحد المكرَّر هو تلك الالتماعة الخاطفة التي ما إن تومض حتى تسارع إلى حتفها، طمعاً بتجدُّدٍ في اللحظة التالية يُنسيها رمادَها المتراكم.



ينتظرنا
صخبُ الحياة يرافق الولادة، والتمرُّن المتدرّج يلهي عمّا وراءه وما أمامه.
جَسَدٌ،
جَسَدٌ في منتهى الهدوء يقدّم للناظر إليه الألغاز والأسئلة التي طالما أهملناها بداعي جَرْف الحياة الجارف.
في سياق الحياة لحظاتُ سرور أو انهيار أو اختراق للحدود، وكلّها تُحسّ في بياض نفسها بأنّها هاربة ممّا تخشى مواجهته.
سكون الميت،
سكون الميت يغرزك في الركن الهادئ، عند لحظة الصومعة، حيث لا تَحضر سوى الأرواح الحاسمة.
تجلس إلى حافة سريره تتأمّل وجهاً استراح من زئبق التنويع، لتحلّ محلّه طمأنينة تجمع منتهى الوداعة إلى منتهى التخجيل، طمأنينة لا تلبث أن تنقل إليك شعوراً غامضاً بأنّك مهدَّد... بأنّك متَّهم... بأنّك سطحيّ وغير صادق.
الصخب الأول، منذ الولادة، ينساك عندما تشتدّ فتحسب أنّك حرّ، وتجلس إلى حافة سرير شخصٍ توفّي الآن فينقل إليك استقراره ما يخلخل ثباتك من جذوره.
الميت ينتظرنا...
الميت ينتظرنا بلا أقواس نصر، لا أزهار، لا زغاريد،
بلا اسم، في ثيابٍ عاديّة،
وسط بُرْكة صافية من النوم السعيد حول وجهه تتّسع وتتّسع،
وتَبْتلع.



عابرات

بعضنا يربح لأنّه خسر.
هذا ليس اعتباطاً، بل قانون التوازن المُغْلَق دون حساباتنا.
∎ ∎ ∎
ما تريد أن تفعله فَعَلْتَه ولم تَقُل ما كنتَ تريد أن تقول.
∎ ∎ ∎
كونكَ قويّاً لا يغيّر شيئاً وقد يزيد عليك الضربات: الصلابة تَستفزّ. محاولةُ أن تكون قويّاً أجدى: المحاولة اتّضاع، والعجرفةُ فيها أقلّ.
∎ ∎ ∎
زوجان يتجادلان بحدّة: منظرٌ يبعث على الدهشة: حيويّة الجدل تعني أن بقايا أحلام ما زالت صامدة.
∎ ∎ ∎
النهار لا يَرى ولا يَسمع، إنْ كنتَ تبغي التخفّي سلّم له أسرارك.
∎ ∎ ∎
سعادة الناس العاديّين تبقى لهم ولا تنتقل. قد تكون بيوتهم مترعة بالفرح ولا يَرْشَح منها قطرة إلى الجيران.
صوتٌ رخيم تحمله لك الريح من راديو النوافذ يغيّر نهارك. نقراتُ عود. دبكة.
سطر في بداية كتاب يفتح لحياتك صفحة جديدة.
الفنّ ينشر الخير مثلما ينشر الهواء اللقاح.
∎ ∎ ∎
بالعكس، لا يمكنك أن تحبّ إلّا الحلم، وأن تجعل ما تحبّه حلماً أكثر. لا تُصدّق العاجزين.
∎ ∎ ∎
بعض السلالات، كالمواهب الفريدة، لا تتألّف من أشخاص أو أجيال بل من شخصٍ واحد.
∎ ∎ ∎
تتبشّع المرأة عندما تدخل في نوبات الغيرة لأنّها تغادر فضاء الإغراء وتنحبس في المملوكيّة. المرأة تحلو عندما تُحَبّ أكثر منها عندما تُحِبّ.
∎ ∎ ∎
الإباحة، حتّى لا تُمسي رماد ذاتها، يجب أن تنحصر في حدود البَرْق الذي يتخلّل الفضاء.
∎ ∎ ∎
«عشقتُها حتّى الحبّ... حينذٍ بدأتْ تكرهني»، عبارة يمكن أن تجري على لسان بعض العشّاق.
∎ ∎ ∎
الصريح الفظّ أو الخبيث الناعم؟
ألف مرّة نعومة الخبيث ولا فظاظة أحد.
***
نحن أرواح غَيرِنا.