وأنت تمضي مع الصفحات المئة الأولى من رواية حسن نجمي «جرترود» (المركز الثقافي العربي 2011)، يستولي عليك إحساس بأنك داخلٌ أرضاً غريبةً، غربيّةً، مستطرَفة إلى حدّ، أرضاً قد تدفعُك إلى التساؤلِ: لم ذهب حسن نجمي هذا المذهب؟ لكن الرواية ستأخذك أخذاً، بالرغم من تحفّظك الأساسي، لتلقي بك في المهاوي السحيقة، لعملٍ بلغَ فيه الجهدُ مبلغَه الأقصى. أيّ جلَدٍ امتلكه المؤلّف، كي يُلمّ، ويجعلَنا نلمّ، بالشخصية المعقّدة لجرترود ستاين، مالئةِ الدنيا، وشاغلةِ الناس في زمانها، وربما في زماننا أيضاً؟ البحث مضن ودقيق. بحث اقتضى السفر والتعرّف والمعرفة. بحث أكاد أشبّهه بالطريقة العربية القديمة في طلبِ العلم، الطريقة التي تستلزم السفر في نشْدان المعرفة. والوسائلُ (الحِيَل الفنّيّة) متعددة: محمد الطنجي الذي فهمت، بصعوبة، أنه شخصية متخيّلة تماماً. ليديا ألتمان التي تكفّلت بالرحلة النيويوركيّة. برنار كاشّوه الذي اختار حيّ الغجر ملاذاً أخيراً. أمّا الوسيلةُ الأكثر مضاءً فتمثّلتْ في إعادة خلق الحياة اليومية الزاخرة لجرترود ستاين.البورتريت (بورتريت بيكاسو لجرترود) كان نقطةً محوريّةً أيضاً في لمّ شتات الأحداث وسيرورتها.
■ ■ ■
ما العلاقة بين محمد الطنجي وحسن نجمي؟ حسن نجمي ليس من أهل طنجة. حسن نجمي ليس فارغَ العِياب، مثل محمد الطنجي، في ما اتّصلَ بالفنّ وأهله، وأوروبا وما فيها. إذاً: محمد الطنجي هو مخلوق نجمي الأثير. وهو الأثيرُ لأنه وسيلته الفنّيّة الأكثر مَضاءً وإقناعاً. وهو الحاسمُ فكراً ، لأنه مهّدَ السبيلَ أمامَ حسن نجمي، ليرفضَ الرفض الكامل الراديكالي لمجمل ثقافة الغرب المتعالية المتغطرسة.
■ ■ ■
البورتريت الأصل لم يكن في المتروبوليتان. والأصلُ نفسه (جرترود) عاد إلى قوقعةِ قومه الفولاذ.
■ ■ ■
محمد الطنجي انهارَ تحت وطأة الخذلانِ والمهانة. عاد إلى طنجةَ كسيراً حتى الموت. لكنه منحَنا، بموته المؤلم، حصانةَ ألا نموت تحت وطأة مماثلة.
■ ■ ■
«استودعتُك وديعتي، ولقد تعهّدتَ. حسن، لا بدّ أن تكتب كتاب حياتي. تصرَّف كأنه كتابك، انتصِر لأخيك!»
■ ■ ■
المخلوق والخالق توحّدا في جرترود الرواية. لكنّ هذا التوحّد كان مدروساً بدقّة وهدوء، حتى لقد بدا الدأب المتأني، فجاءة، هي فجاءة الصفحات الأخيرة، ولم يكن كذلك، البتة. النهايات، كالبدايات، هي من شغل كاتب قدير.
لندن 07.11.2011