باريس | ليس من المعتاد أن تُمنح جائزة «غونكور» إلى عمل روائي أول. لكنّ حصول باكورة ألكسي جيني «فن الحرب الفرنسي» (غاليمار) على الجائزة الأدبية الأعرق في فرنسا، لم يفاجئ الأوساط الثقافية. فقد صُنّفت هذه الرواية منذ شهر آب (أغسطس) الماضي، ضمن أفضل عشر مفاجآت في الموسم الأدبي الجديد.وأشاد النقاد بتميز أسلوبها وبنيتها المغايرة، إضافةً إلى جرأة مضمونها الذي يسائل الضمير الجمــعي الفرنسي، من خلال التـطــــرّق إلـــى جرائم وجراح الحروب الاستعمارية. ولم يلبـث القـــراء أن تلقفوا الرواية لتصير العمل الأكثر مقروئية خلال الشهرين الأخيرين، إذ بيعت منها 56 ألف نسخة قبل حصولها على الـ«غونكور»! وقد تُرجمت هذه الحفاوة النقدية والشعبية، من خلال إدراج الرواية ضمن الترشيحات لأبرز الجوائز الأدبية الفرنسية، من «رونودو» إلى «فيمينا»، ومن «ميديسيس» إلى «غونكور».
ويروي الكاتب ريشار مييه الذي تولّى إعداد الرواية للنشر، أنّه ما إن تلقّى مخطوط العمل مرسلاً بالبريد من مدينة ليون، حتى أدرك أنّه وضع يده على رواية الموسم بلا منازع. «أبهرتني بنية الرواية التي تتداخل فيها الأزمنة والأحداث، ويختلط السرد الروائي بالتعليق، أو التحليل التاريخي. ما يجعل منها عملاً أدبياً لا يخلو من الغرابة، إن على صعيد الأسلوب أو المضمون».
وقد أجمع النقاد، بالفعل، على أنّ هذه الرواية تعدُّ «جسما أدبياً غير قابل للتصنيف». فإذا كانت الكتابة عن حرب الجزائر أمراً رائجاً في الأدب الفرنسي، فإن المقاربة التي اعتمدتها هذه الرواية للانطلاق من الهزيمة الفرنسية في معركة ديان بيان فو (الهند الصينية)، ومنها إلى حرب الجزائر، وصولاً إلى الإشكالات الراهنة في أحياء الضواحي المأهولة بالشباب الفرنسي المتحدّر من أصول مهاجرة، تعدّ أمراً صادماً، وغير معهود في موطن موليير. إذ، لم يسبق أن تطرّق أي عمل أدبي من قبل إلى الجرح النرجسي الفرنسي المتولِّد عن مرحلة ما بعد الاستعمار، حروب جلاء، بمثل هذا القدر من الجرأة وصفاء الرؤية.
إلى جانب خطابها ومضمونها المغايرين للراسخ في الذاكرة الجماعية الفرنسية، تتسم الرواية ببنية أسلوبية مخالفة لما هو متعارف أو معتاد في مجال السرد الروائي. فهي ليست رواية تاريخية بالمفهوم التقليدي. إذ إنّها لا تكتفي باستعادة التاريخ الاستعماري من خلال شخوص خيالية، تتشابك مصائرها في أتون أحداث التاريخ ولحظاته المفصلية. كما أنّها ليست مجرّد رواية نفسية تسعى إلى سبر أغوار الهمّ الجماعي من خلال العذابات النفسية، والتمزّقات الحميمة لشخصيات قلقة ومعذبة، طحنتها عجلة التاريخ. بل تعتمد على لعبة زئبقية تقفز برشاقة من السرد الروائي إلى التحليل التاريخي، ومن التداعيات النفسية إلى التأمل الفلسفي.
وهي بذلك رواية ترواغ القارئ ثم تتعمد صدمه ومفاجأته. لكن هذه المراوغة لا تهدف إلى إبهار المتلقي، أو شدّ أنفاسه إلى حبكة سردية مبهمة أو حافلة بالتحولات والمفاجآت، بل تستخدم عناصر التشويق والمراوغة من أجل استدراج القارئ إلى حيث لا يتوقع.
لتحقيق ذلك، تعتمد الرواية سردية أقرب إلى التشكيل منها إلى الوصف الخطابي، إذ تتمحور أحداثها حول نقاشات وتجاذبات تدور بين شخصيتين أساسيتين: الراوي، وهو شخص خجول وانطوائي يشبه إلى حد كبير المؤلف ألكسي جيني، ومدرّس فن تشكيلي يدعى فيكتوريان سالانيون، يقصده الراوي (الروائي؟) لتعلم الرسم على يديه. تنشأ بينهما صداقة قوية، فتتحول جلسات تعلم الرسم فضاءً لنقاشات وتأملات فكرية وتاريخية، يستعيد من خلالها مدرس الفن العجوز جوانب من ذكريات شبابه الأليمة، أيام كان مجنداً في الهند الصينية ثم في الجزائر. تخضع استعادة الأحداث لتقلّب أمزجة الراوي وأستاذه، فتتصادم الأفكار وتختلط كقطع «بازل».
هكذا، تتضح تدريجياً عناصر المشهد الملتبس في البداية، لترتسم في ذهن القارئ ملامح البورتريه التاريخي والنفسي لهزائم فرنسا الاستعماريّة.