قبل أيام، دعت جماعة تسمّي نفسها «الصعاليك» إلى تجمّع موسيقي في دوار باريس في جبل اللويبدة. هناك غنت فرقة «ترابيّة» و«خطة ب» عن الفساد، وضرورة الإصلاح المجتمعي والسياسيّ، والمقاومة، والثورة، والعروبة. كان التجمّع محاولة للخروج من حائط فايسبوك، إلى أرض الواقع. وهذا ما حصل. وقفت سيارة شرطة بالقرب من الدوّار، ونزل منها رجال أمن بلباس مدني. بدا مذعوراً، ومتردداً في تصنيف ما يحصل أمامه. وبعد مداولات على الهاتف مع «القيادة»، واستجوابات قصيرة، قرّر تسجيل جزء من تجمّع «الصعاليك» على الهاتف الخلوي.
ما حصل لاحقاً، كان مفاجئاً، لكنّه يعدّ تقليدياً في المزاج الأردنيّ. مراهقون شعروا بأنّهم مقصيّون عن الحفلة، فقرّروا الاستمتاع بوقتهم قبالة «الصعاليك» من خلال سماع أغنيات تسمى «وطنيّة»، وتمجّد أشخاصاً، وأجهزة بعينها. لم يحدث احتكاك من أي نوع بين المجموعتين. لكنّ ردّة الفعل على التجمّع الموسيقي، ليست إلّا إفرازاً مباشراً لسياسات أمنيّة، رسّخت ثقافة الموالاة في عقول المراهقين. كأنّ النموذج الأردني صار يحتّم وجود مسيرة موالين، مقابل كل مسيرة تطالب بالإصلاح! وهذا يعني أمراً واحداً: عندما يصاب رجل أمن بالذعر من أغنية، تصير لازمة الأمن والأمان التي ترافق تصريحات المسؤولين مجرّد مصطلح هلاميّ. وعندما يتمّ ترسيخ أغانٍ مبتذلة ليس لها علاقة بالوطن، فإن الطاقات الأمنيّة تكرّس وطناً آخر، اخترعته، ولا وجود له إلا داخل دوائرها فقط. ونتيجة هذه السياسات، صار هناك فصام على الأرض: ثمّة جوع للثقافة، مقابل استرخاء تام للجهل، وتقدير لحريّة التعبير، مقابل مسلّمات كثيرة تقوّض تلك الحريّة.
هذه السياسات نفسها جعلت الأمنية الأخيرة لتوفيق النمري ـــــ أحد روّاد الموسيقى الأردنيّة الذي رحل الشهر الماضي ـــــ مجرّد شارع باسمه.
من جهة أخرى، ما زالت الموسيقى التي تناقش قضايا اجتماعية أو سياسيّة، تعدّ نخبويّة. هذا ما قاله رجل استوقف الشباب وسألهم عن بعض الكلمات قائلاً: «أنا رجل شارع، مش زيّكم مثقفين». المسؤوليّة لا تقع فقط على عاتق السياسات الأمنيّة... على من يدّعي أنه يملك رسالة إصلاحية ـــــ من الموسيقيين وغيرهم ـــــ طمر الهوّة التي خلقتها هذه السياسات في الشارع، وبثّ الوعي الجمعي، والخروج من دائرته الضيّقة أيضاً.