يبشّرنا توم وايتس بعالم مختلّ، بشع وعدائيّ نَهْرُه البؤس، ونقوده مغمّسة بالدم. أمّا إله هذا العالم، فمشغول عنه لمصلحة القتلة واللصوص والمحامين. وأجمل ما في هذا البؤس الحب الناقص. المرأة المثالية بالنسبة إليه، هي من تلقي برأسها حيث كان قلبه موجوداً قبل أن يتخدّر ويموت. أما المشكلة الحقيقيّة لهذا العالم، فهي أنّنا «مدفونون تحت ثقل هائل من المعلومات التي تختلط بالمعرفة؛ يتم التشويش على هذه الكمية منها بالوفرة والثراء والسعادة».
اليوم نفكّر أنّه لم يتغيّر، هذا الشاعر الملعون، في أوّل إطلالة له منذ ٦ سنوات، بل إن تجربته تصفّت وتجوهرت في مع Bad As Me، أسطوانته (تسجيل استوديو) الصادرة منتصف الشهر الماضي عن ANTI – Records.

يصفّر وايتس (1949) عدّاد الهراء الذي نعيشه. يذكّرنا بعدميّة وجودنا على الأرض. ويبشّر بخلاصنا عبر العبث بفكرة وجودنا. هذا هو باختصار «صموئيل بيكيت» موسيقيّاً: المدنيّ بعد قشط القشرة المهذّبة والأنيقة. الشاعر الذي يركل ويشتم على المسرح، الحيوان الذي يحتاج الى أكثر من ميكروفون للصراخ، فيهدر في مكبّر الصوت. الموسيقيّ المجبول من ذاكرة متوتّرة من الجاز والبلوز والروك والتانغو والفالز والروك الصناعي. وصاحب أجمل صوت أجش وصفه الناقد دانييل دورخهولز «كما لو تم نقعه في برميل من البوربون، تُرِك معلّقاً في مسلخ تدخين لحوم لأشهر، ثم أخذ خارجاً لتدوس عليه سيّارة». هذه التوليفة يمكن أن تشكّل «بلاي ليست» حياة أحد أهم موسيقيي عصرنا، وأكثرهم سعياً إلى تلك البقعة التي تقع خارج التصنيفات والانقضاض الجمعيّ على كل ما يطفو على السطح. حياته بدأها كما ينهيها: على الطريق. في الوقت الذي نشر فيه جاك كيرواك روايته «على الطريق» (1957)، كان وايتس الصبيّ يقوم مع والده الذي انفصل عن والدته، برحلات بالسيّارة إلى المكسيك من ولاية سان دييغو. وعلى الطريق، اكتشف موسيقى «الرانشيرا» المكسيكيّة، ليبدأ لاحقاً غناء الـ«آر آند بي» في فرقة مدرسيّة.
بعد خدمته في خفر السواحل، تشرّد وايتس بين بارات المدن ليغنّي مقابل أجر يوميّ حتى انتهى بتوقيع عقد مع شركة إنتاج كي يصدر أسطوانته الأولى Closing Time (١٩٧٣). تتوالى الإصدارات حتى يكتسب شهرة مفاجئة بسبب أسطوانة Small Change (١٩٧٦) التي تضمّنت إحدى أشهر أغانيه، وأكثرها إغراقاً في السورياليّة والغرائبيّة: «البيانو الذي كان يشرب، ليس أنا».
في ذلك الوقت، كان وايتس مدمن كحول ـــــ تحديداً الويسكي ـــــ بينما كانت علاقته مع جمهوره تتبلور. هذه العلاقة التي أسيء فهمها إلى الآن. كلمات الأغنية لا تعدّ أكثر من هلوسة عبثية «البيانو الذي كان يشرب، ليس أنا. أنا أنهار، انتبهوا لي، أنا أنهار، شاهدوني وأنا أتزلّج على أكثر من مشمّع الأرضية. أعلم أنني أستطيع القيام بذلك، أنا متحكمٌ بنفسي تماماً. والبيانو الذي كان يشرب، وهو يحرجني. البيانو الذي كان يشرب، وقد أغار على الميني بار».
في تسجيل حيّ للأغنية، يمكن سماع الجمهور وهو يقهقه، يصرخ مشجّعاً ويطالب بالمزيد. الكلام مضحك بالتأكيد، بغض النظر عن الزاوية التي يمكن النظر إليها أو أداؤها. المستمعون يضحكون لأنهم يعتقدون بأنّ في ذلك ذكاء. هم يعتقدون أنّه بهذه الهلوسة، يقعون على شعرٍ حداثيّ، وحالة ثقافية بطلها سكّير يمثّل أنّه سكّير: الحالة الأميركيّة التي تسمّى الحلم الأميركيّ. «كنتُ قد بدأت بالاقتناع بأنّ هناك شيئاً جميلاً وأميركيّاً خالصاً في اعتباري مدمن كحول»، يقول وايتس. لكن ما يريد أن يقوله لن يفهم في تلك الضجّة، ولن يحاول أحد فهم كلمات الأغنية ببساطة: سكّير فاقد للتوازن، على بُعد صورة شعرية من الانتحار الجميل ... ألم يقل لوتريامون «حزينٌ كالكون، جميلٌ كالانتحار»؟ هذه هي أقصى درجات الكآبة والضياع، وهو يتعمّد أن يستخفّ بها مقابل جمهور كهذا، حاملاً على نفسه، مقرّعاً إياها، معريّاً قشور الحضارة والدِّيْن: «اخنقوا كل ترانيم عيد الميلاد، ضيّقوا على كل الصلوات، قيّدوها بأسلاك شائكة، وادفعوها عبر السلالم»، سيغنّي لاحقاً في أغنية Wrong Side of the Road من أسطوانةBlue Valentine ١٩٧٨. لا ينقذه من هذا «اللّوب» إلا كاثلين برينان التي سيتزوّجها، وتغيّر حياته إلى الأبد. يبدأ مرحلة جديدة يتقرّب فيها من مزاج الموسيقيّ Captain Beefheart التجريبيّ، وواقعيّة السينمائيّ جيم جارموش، وأدب الساحات الخلفيّة القذرة لويليام بوروز. ويبدآن معاً كتابة وتلحين باقي الأغاني.
«العم توم» يبلغ الآن 61 عاماً. وها هو يصدر Bad As Me أسطوانته الـ 17، والأولى بعد سنوات من الانتظار. نطمئن مع هذه الأسطوانة إلى صوت وايتس الذي يتعتّق مع الزمن. الموسيقى، كالعادة، خلطة من الروك الصناعي، والتجريبيّ، والغوسبل والبلوز. أما المواضيع، فيعود وايتس إلى انشغاله في السنوات الأخيرة: الحرب في أغنيةHell Broke Luce التي وجد عنوانها على جدار زنزانة في سجن «ألكاتراز»، وتعنيف الرأسماليّة في Talking at the Same Time، وتأمّل مشهد نهاية العالم في Pay Me، والعالم نفسه الذي يتداعى وراء لامبالاة عاشقين في Kiss Me.
هذه الأسطوانة تعود لتذكّرنا بأن توم وايتس هو تمثيل لأسوأ ما في العالم، وبأنه هو الذي يقولها بأفضل طريقة.