الرباط | بعد ثلاثة أعوام على رحيله، عاد محمد لفتح (1946 ـــ 2008) إلى الضوء بطريقة غريبة. خبر منع روايته «المعركة الأخيرة للكابتن نعمت» (بالفرنسيّة عن دار «لا ديفرانس») شغل المثقفين المغاربة، بعدما اكتشفوا أنّ العمل الحائز أخيراً «جائزة المامونية» في دورتها الثانية، غير متوافر في الأسواق المغربيّة.
هل هي محض مصادفة أن تختفي الرواية من السوق، بعدما تبرّأت وزارة الثقافة من قرار منعها؟ ليس الأمر كذلك على ما يبدو؛ إذ أصدرت المجلة الأسبوعيّة الناطقة بالفرنسية «أكتويال»، ملفاً خاصاً عن الرواية يدين المنع المقنّع، قبل أن تتوالى ردود الأفعال المندّدة في الصحف المغربية وفي أوساط المثقفين. تمنح «جائزة المامونية» بمبادرة من أحد الفنادق المغربيّة الشهيرة، وتبلغ قيمتها 200 ألف درهم (نحو 27 ألف دولار)، وهي مخصصة لتكريم الأدباء المغاربة الذين يكتبون باللغة الفرنسية. وأثناء إعلان نتيجتها مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، سأل صحافي فرنسي من مجلة «لير» اللجنة: «من هو محمد لفتح؟»، وفي مشهد عبثي، صمت جميع أعضاء اللجنة من دون إجابة. ولولا حضور الصحافية والناقدة كنزة الصفريوي، لتحوّلت المهزلة إلى فضيحة! تحدّثت الاختصاصية في أدب لفتح بإسهاب عن الروائي الذي ولد عام 1946 في مدينة سطات (72 كيلومتراً جنوبي الدار البيضاء) قبل أن يتنقّل بين مدن عدة حول العالم، وينهي أيامه في منفاه الاختياري في القاهرة. عن العاصمة المصريّة تحديداً، كتب لفتح عمله الإشكالي، وبطله كابتن طيران متقاعد في الجيش المصري، يكتشف ميوله المثليّة. الرواية جاءت صادمةً للمحافظين، لكنّها تندرج ضمن خيار أدبيّ خطّه الراحل بألا يهادن أحداً؛ إذ كان لفتح هامشياً بمحض اختياره، وكاتباً كبيراً تجاهلته المؤسسات الثقافية المغربية.
تدور رواية «المعركة الأخيرة للكابتن نعمت»، حول شخصيّة القبطان الذي يعيش مع زوجته ميرفت في حي بورجوازي، ويتمتع بحياة مترفة في ناد قاهري، مع رفاقه السابقين في الجيش. يكتشف الرجل الستيني حباً خفياً للشباب الذين يتحلّقون حول المسبح، قبل أن يمارس الجنس مع خادمه إسلام. وبعد البحث والسؤال، تبيّن أن المحتوى الإشكالي للكتاب دفع الموزّع المغربي إلى أن يتجاهله، ويحرم القرّاء إياه. لكنّ المنع لم يكن معلناً، بل بقي لغزاً، إلى أن اكتشفته الصحافة المغربيّة بالتدريج...
أثناء حفلة توزيع الجائزة، حضر الجميع، من وزير الثقافة المغربي بنسالم حميش، إلى وزير الثقافة الفرنسي الأسبق جاك لانغ. لكنّ الغائب الأكبر كان العمل بحد ذاته. صحافيون مغاربة مهتمّون بالأدب اتصلوا بالمكتبات الكبرى، لكنّ الكتاب لم يكن موجوداً على رفوفها. اتصلوا بعدها بالموزّع الرئيسي للكتب الفرنسية في المغرب، ليكتشفوا أنّه اشترى كمية من مزوده الفرنسي، ثمّ ألغى الطلبية!
تجهيل المسؤول الحقيقي عن غياب «المعركة الأخيرة للكابتن نعمت» أثار لغطاً كبيراً. لكنّ مثقّفين وجامعيين وإعلاميين مغاربة انتصروا للكاتب، منهم عبد اللطيف اللعبي، وأحمد بوزفور، والطاهر بن جلون، ومحمد برادة، وهشام فهمي، وياسين عدنان، سائلين في بيان أصدروه أخيراً: «هل نحن أمام منع حقيقي، أم خطأ فظيع في حقّ كاتب لم تنصفه المؤسسة الرسمية حياً ولا ميتاً؟». واستنكر البيان «هذا الإجراء الذي يمثّل مسّاً خطيراً بحرية الفكر والتعبير في المغرب، والذي ينمّ أيضاً عن احتقار سافر لذكاء القارئ المغربي وتعطّشه للمعرفة».
الكاتب الراحل اختار أن يبحر عكس السائد، ويعيش ويكتب على هامش القيم المهيمنة. كان يتنازعه «سُكْر الشك، سُكْر اللايقين، السكر الثائر». تصف الصفريوي حالته القصوى وهو يترقّب هذا النص المعجزة أثناء دراسته في فرنسا. بعد عودته إلى المغرب مطلع السبعينيات، عمل مهندس معلوماتية، وكتب في بعض الصحف. اخترع لنفسه حياةً جديدة، وسط المهمّشين في حانات «السفانكس»، و«الدون كيشوت»، حيث شرب حتى الثمالة. خزّن في ذاكرته صوراً لناس وأماكن، قبل أن يصدر باكورته «آنسات نوميديا» (1992) التي تدور أحداثها في أحد مواخير الدار البيضاء، بعد سنوات من رفض دور النشر الكبيرة لمخطوطاته. وبعد سنوات (2000)، هاجر إلى مصر. في أحد البرامج، تحدث عنه مغربي آخر هو سليم الجاي، المقيم في فرنسا. وصفه صاحب «معجم الكتاب المغاربة» بأنه أحد أعظم الأقلام المغربية، وأسف لأن الرجل فارق الحياة! اتصل لفتح بالجاي ليخبره أنّه حيّ يرزق، وأرسل له مخطوطات أدبيّة، دعم الجاي نشرها عند «لا ديفرانس» الفرنسيّة منذ عام 2006، واستمرّ في ذلك بعد رحيل صاحبها... ومنها «سعادة الهضاب»، و«وردة في الليل»، و«المعركة الأخيرة للكابتن نعمت»... فهل يتمكّن القارئ المغربي من قراءتها يوماً؟



كنزة الصفريوي تتذكّر

طويل القامة، يغالبه الحياء، مرة حالم، ومرة يراقب التفاصيل المحيطة حاملاً سيجارة. هكذا تتذكره كنزة الصفريوي. صُوَرُه الفوتوغرافية تحفظ رجلاً بعيون هاربة يضع نظارات ذات إطار مربع، يخفي جزءاً كبيراً من وجهه، كأنّه خرج لتوّه من الستينيات. ولد لفتح عام 1946 وعاش في الدار البيضاء قبل الانتقال إلى باريس. كان تلميذ قامة أخرى في الأدب المغربي، هو إدمون عمران المليح الذي درّسه في ثانوية «مولاي يوسف» الشهيرة في الرباط.
أبدى في مرحلة باكرة من شبابه اهتماماً باللغة الفرنسية رغم متابعته لتخصص العلوم. انتقل للعيش في باريس نهاية الستينيات، وعاش أيار (مايو) 1968 والحلم الطلابي بعالم أفضل. ومنذ ذلك الحين، لازمته لوثة الأدب. كان يكتب دائماً قصائدَ ونصوصاً يتركها للنسيان، بسبب الشك في قيمتها الأدبية، خلال لحظات السكر.