«المكان إذا لم يكن مكانة لا يعوَّل عليه» عبارةٌ استعارتها الباحثة سعاد الحكيم من محيي الدين بن عربي، في مستهلّ أمسية «الدهر والزهر ـــــ الأندلس في لبنان»، التي أقامها معهد «ثرفانتس» والسفارة الإسبانية في «مسرح بيار أبو خاطر». إضافةً إلى إبرازها التفاعل الثقافي والفنّي والتراث المشترك بين العالم العربي وإسبانيا، تحثّك الأمسية الموسيقية الشعرية على طرح أسئلة راهنة وملحّة، ومقارنة الواقع العربي في غمرة الثورات الشعبية بوضع العرب في شبه الجزيرة الايبيرية بين 711 و1492.
النهضة في الأندلس أسهمت في نهضة أوروبا، ومثّلت نموذجاً حضارياً وثّق الحوار بين الأديان، فيما يُخشى اليوم أن يتحوّل «الربيع العربي» إلى «خريف عربي» بسبب خطر الانقسام على أساس طائفي ومذهبي. بعد مداخلة الشاعر والأكاديمي سامي مكارم، الذي عرّف بشعراء الأندلس، أُتيح لمحبّي الشعر الصوفي سماع قصائد أبي مدين الغوث، وابن حزم من «طوق الحمامة»، وابن عربي، وأبي الحسن الششتري، بصوت الممثّل جهاد الأندري، الذي بدا إلقاؤه مسرحياً أكثر منه شعرياً. واختتمت الأمسية الفنّانة المغربية كريمة الصقلي التي أدّت موشّحَيْن من الشعر الأندلسي الشرقي: «جادكَ الغيث»، و«يا وحيد الغيد»، إضافة إلى موّال أعقبه «رثاء الأندلس» لأبي البقاء الرنديّ. وأنشدت الصقلي «استغفر الله» و«فجر المعارف» برفقة غسان سحاب (قانون) وسلمان بعلبكي (رِقّ). تجلّت كريمة في الموشّحات التي يُسمّى معظمها «موشّحات أندلسية» ما يمثّل التباساً عند الجمهور. «إنّ سبب هذا الخلط الشائع لدى الجماهير في نسب كلّ ما نسمعه من موشّحات إلى الأندلس أنّ الموشّح فنّ عربي نشأ فعلاً في الأندلس، لكنّنا لا نعرف ماذا بقي لنا من تراث هذه الألحان الأصلية، بعدما تسرّبت إلى بلاد المغرب العربي ومصر والمشرق العربي، وخصوصاً بعد جلاء العرب نهائياً عن الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر» حسب الياس سحّاب (كتاب «الموسيقى العربية في القرن العشرين/ مشاهد ومحطّات ووجوه»). في الأمسية، جرى التأكيد على أنّ «ابن عربي أوّل مَن استخدم الموشّح في التصوّف»، فيما كان «الششتري أوّل مَن استعان بالزجل في التصوّف»، لكنّ بعض الباحثين بيّنوا أخيراً أنّ ابن عربي أوّل مَن استخدم الفنَّيْن معاً. حتّى لو لم يكن الأمر كذلك، يكفي أن يكون ابن عربي صاحب مقولة «كلّ ما لا يؤنَّث لا يعوَّل عليه» ليكون مفكّراً متنوّراً وناقداً طليعياً «سبقَ» رولان بارت إلى ابتداع مقولة «حين يَعشق الرجل يؤنَّث» سواء كان هذا العشق إلهياً أم عشقاً للآخر/ الأخرى بالمعنى الاجتماعي أوّلاً.
انطلاقاً من هنا، لا عجب في أن يُضطهد الصوفيون تاريخياً. إنّهم تأويليون ولا يعوِّلون على اللفظ المهيمن على المعنى. أمّا ما لا يعوَّل عليه اليوم، فهو التغنّي بأمجاد الأندلس، وبتدخّلات خارجية باسم الديموقراطية والحرّية وحقوق الإنسان، وبثورات لم تنتج بعد أنظمة مدنية حديثة.