القاهرة | القاهرة عام 1911. المدينة تعيش لحظات عاصفة. مصر كلها في استراحة بين «ثورتين»: الثورة العرابية التي رحل قائدها أحمد عرابي في أيلول (سبتمبر)، وثورة 19 التي فجّرها سعد زغلول وزيراً للمعارف وقتها (التعليم). في تلك الأيام، عاد جورج أبيض من باريس وكوّن فرقته المسرحية التي بدأت تقديم عروض أجنبية. كان أبيض يعمل على تعريب مناهج التعليم بتكليف سعد زغلول. طلعت حرب أصدر كتابه «علاج مصر الاقتصادي» مطالباً بثورة ثقافية تنقذ مصر. النحات محمود مختار سافر إلى باريس ليستكمل دراسته بعدما تخرّج في العام ذاته من مدرسة الفنون الجميلة المؤسسة حديثاً في أولى دفعاتها.
كانت مصر مشغولة بالتحرر. الشعب يغني أغنية محمد يونس القاضي: «يا ست مصر صباح الخير/ يسعد صباحك يا عنيه/ فين العداله يا مون شير/ وبس فين الحرية». مصر تبحث عن حداثتها وموقعها في العالم، مقالات الصحف في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1911 تتناول الحرب الإيطالية على ليبيا، واستعدادات الهلال الأحمر للسفر إلى هناك واغاثة أهل طرابلس، وتبرعات المصريين لهذه المهمة الجليلة.

ورغم أجواء الحرب التى تلف القاهرة، لم تتوقف سينماتها ومسارحها. في اليوم ذاته، تعرض فرقة «سلامة حجازي» مسرحية «روميو وجولييت» في «دار التمثيل العربي»، ويعرض جورج أبيض رواية «كارمن».... وتنقل الصحف أخبار الفن الصاعد «السينماتوغراف»... في ذلك اليوم من 11 ديسمبر 1911، كان يمكن المصريين شراء النبيذ من الصيدليات، بينما الأنواع الفاخرة من الويسكي تحتلّ إعلانات الصحف: «برفكسيون: هذا الويسكي ذو الطعم الأشبه بالكونياك المعتق الثمين وسر اصطناعه لا يشتريه المال الكثير فهو مشروب الملك دور السابع». العجيب أنّ جريدة «المقطم» نشرت في اليوم نفسه إعلاناً بعنوان «جواب استغفار» يشكو فيه أصحاب مشروب «برفكسيون» من ماركة مقلدة تباع في القاهرة للمشروب، لأنّ «التقليد حرام ولا يجوز من الله». في الصفحة نفسها عن آلة أميركية تُستخدم في ري الأراضي الزراعية، وتمكّن الفلاح المصري من «مضارعة زميله الأميركي في تقدمه وثروته».
في هذه الأجواء من 11 كانون الأول (ديسمبر) 1911، أطلقت امرأة صرخة الولادة، لكن الداية الشعبية عجزت عن التعامل مع الحالة المتعسرة، نقلها الأب إلى أشهر طبيب في القطر المصري يومها نجيب باشا محفوظ. وعرفاناً بجميله، أطلق الأب اسم الطبيب القبطي الشهير على طفله. ولد نجيب محفوظ (1911 ــ 2006) في لحظة يبحث فيها المجتمع عن حريته وحداثته وأسئلته الكبرى. مجتمع يخرج من ثورة بحثاً عن أخرى من أجل حرية أفراده.
منذ ذلك التاريخ، يعيش محفوظ في قرنين، ويعاصر الوطن في انتصاراته وهزائمه، توهجه وانطفائه، ويصبح مؤرخه الفني. عاش التقلبات والمنعطفات الحاسمة، والثورات والحروب، من النكسة الى الاستنزاف وحرب أكتوبر، من ثورة 19، إلى ثورة يوليو ٥٢، ومن كامب ديفيد إلى «الحرب على الإرهاب». مسيرة صاخبة توّجتها «نوبل»، استطاع على امتدادها أن يصمد في وجه التقلبات والعواصف والتغيرات التي أصابت المجتمع والثقافة.
تكبّد صاحب «الثلاثية» مشقة السفر في عالم الرواية طوال عقود بعدما قاوم الشيخوخة، والسلطات، وكتّاب التقارير وصناع الطغاة، وسكاكين المتطرفين، وكل الصعوبات التي كادت تحول بينه وبين الكتابة.
ربما تمتد حياته وتتسع سيرةً لحداثة عربية أُجهضت. كيف كان الوطن؟ وكيف أصبح؟ لم يكن قد تجاوز الـ14 عندما بدأ كتابة قصة طويلة سّماها «الأعوام» مقلّداً رائعة عميد الأدب العربي طه حسين (الأيام). وعندما التحق بكلية الآداب، اختار الفلسفة، وظل مشتتاً بين الأدب والفلسفة حتى حسم أمره بالإخلاص للكتابة. باختصار قرر اتخاذها حرفةً رغم ما ستجره عليه من مشكلات مثل راوي رائعته «أولاد حارتنا»! تكفّل عبر أكثر من 50 رواية وقصة بقطع الرحلة التي قطعتها أجيال من الروائيين الغربيين خلال 400 عام. حرق محفوظ مراحل تطور الرواية من التاريخية إلى الواقعية إلى الرمزية، ولم يعد أمام الأبناء والأحفاد سوى الاندماج في مسيرة الرواية العالمية كتفاً بكتف. كانت الثورة حلمه الدائم. بالتأكيد هو الأكثر فرحاً بها. حلم بها واسمه حاضر فيها بقوة اليوم. لكن بعدما خرجت الثعابين من جحورها توجّهت إليه سمومها من جديد (راجع الصفحة المقابلة)، لعلّه من هناك سيقابلها بوداعة واستسلام. ربما يضحك ويتمنى أن «تمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء» كما كان يحلم في «أولاد حارتنا»... فهل تحقق الثورة حلمه الذي هو حلمنا جميعاً؟