القاهرة | «خرج الفقراء والمساكين من أكواخهم إلى الميادين بلا تدبير. اندفعوا وراء مشاعرهم القلقة الدفينة. وفي تجمع لا مثيل له، وجدوا أنفسهم عملاقاً لا حدود له يجأر بالاحتجاج والخوف من المستقبل. تبودلت أنّات الشكوى في هيئة همسات مبحوحة، ثم غلظت واحتدمت بالمرارة، ثم تلاطمت كالصخور. وبسبب من القوة المتجسدة المخلوقة من (عدم) تأجج الغضب، شعروا بأنّهم سد منيع بتكتلهم وأنهم طوفان إذا اندفع واندفعت الجموع كأنّها سيل ينصب من فوق قمة جبل تبعث في الجو هديراً». هذا مقتطف من رواية «ليالي ألف ليلة» (1983 ـــ مكتبة مصر) لنجيب محفوظ الذي لم يستح المتحدث الرسمي باسم التيار السلفي في مصر عبد المنعم الشحات باتهام أدبه بـ«الإلحادي الذي يدعو إلى الرذيلة».
عبر فضائية «النهار» المصرية، حكى الشحات عن موقفه من أدب صاحب «نوبل»، فقال إنّ «كتابات محفوظ تشجع على الرذيلة، وتدور حول الدعارة وأوكار المخدرات». وتابع بأنّ رواية «أولاد حارتنا» تضمّ «بعداً إلحادياً». وتهرّب من سؤال ما إذا كانوا سيمنعون هذا النوع من الأدب حال وصولهم إلى السلطة، فرد: «هل يجب على الدولة حظر أدب الإلحاد؟ السؤال يجب أن يوجَّه إلى مجمع البحوث الإسلامية». وأكّد أنّ هذا رأيه «ولا يمكن أحداً الحجر عليه». إلا أنّ ذلك لم يكن رأيه، بل وجهة نظر مشايخهم منذ زمن بعيد. عضو الهيئة العليا لحزب «النور» نادر بكار يملك الرأي نفسه تقريباً. يرى أنّ «روايات نجيب محفوظ تعرض المجتمع المصري عرضاً مشوهاً».
تصريحات أعضاء التيار الإسلامي صدمت المثقفين، وخصوصاً أنّها تزامنت مع مئوية الأديب العالمي. وارتفعت الأصوات معبّرة عن خوفها على مستقبل الثقافة في مصر بعد سيطرة الإسلاميين على مقاعد البرلمان في المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب.
حاز محفوظ «نوبل» (1988) عن أعمال كان لها أثر كبير في الرواية العربية والعالميّة المعاصرة. وقد سلّطت الأضواء على رواية «أولاد حارتنا» التي أثارت رمزيّتها جدلاً واسعاً، ووصل بعض المتأسلمين إلى اتهام الكاتب بـ«إهانة» الذات الإلهية، ما عرّضه لمحاولة الاغتيال الشهيرة عام 1995. محمد ناجي محمد مصطفى، الشاب الذي طعنه في عنقه، كان ينفّذ «أوامر أمير الجماعة التي صدرت بناءً على فتاوى الشيخ عمر عبد الرحمن». وفي العدد الأخير من مجلة «الثقافة الجديدة» الشهرية، نشر رئيس اتحاد كتاب مصر محمد سلماوي حواراً غير مباشر بين نجيب محفوظ والشاب الذي حاول اغتياله، فصرّح الأخير بأنّ الجماعة الإسلامية «شرّفته» باغتيال محفوظ. سلماوي الذي أدار حواراً غير مباشر بين الطرفين، سرد على لسان الشاب قائلاً: «كان هدفي ذبح نجيب محفوظ داخل منزله بالسكين». ويضيف: «لكن الله لم ييسر الأمر في اليوم الأول الذي ذهبنا فيه إلى بيت محفوظ. لذلك، قررنا ذبحه في اليوم التالي، وقد نفّذت العملية وحدي وهربت إلى زملائي في حي عين شمس، وأخبرتهم أنني غرست السكين في رقبة محفوظ فأخذوني بالأحضان وأخذوا يقولون لي مبروك».
سلماوي الذي يستعد هذا الشهر لإصدار كتاب «في حضرة نجيب محفوظ» عن «الدار المصرية اللبنانية»، وضع هذا الحوار في أحد فصوله، مذكّراً بأنّ الجاني، عندما سئل عما إذا قرأ شيئاً من أعمال صاحب «زقاق المدق»، أجاب: «أستغفر الله». ولم يفد هذا الشاب عفو محفوظ عنه، إذ قال: «لقد هاجم نجيب محفوظ الإسلام في كتبه. لذا أهدر دمه وقد شرفتني الجماعة بأن عهدت إليّ بتنفيذ الحكم فيه فأطعت الأمر، ولو أنني قابلته ثانية، لنفّذت فيه مرة ثانية الأمر الذي صدر إليّ».
ما أشبه الليلة بالبارحة. طيور الظلام التي حاولت اغتيال محفوظ لأنّه «أساء إلى الإسلام»، تحاول اليوم اغتياله بعد مماته، وتتهمه بالدعوة إلى «الدعارة، ونشر الرذيلة». «تصريحات ليست جديدة ـــــ حسب الناقد جابر عصفور ـــــ تحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى عصر التخلف». وطالب عصفور الأدباء والمثقفين بالوقوف صفاً واحداً «للدفاع عن تراث الاستنارة». أما الناقد صلاح فضل، فيرى أنّ تصريحات الجماعة الإسلامية تعبّر عن «الجهل والرذيلة». وطالب المتعصبين بدراسة الأدب، ليتعلموا أنّ الفن لا يُحكَم عليه بالمقاصد الشرعية. وخاطبهم قائلاً: «عليكم أن تدرسوا الشعر الجاهلي، والشعر الذي قيل أيام الرسول وأن تتعاطوا مع الأدب بالأدب».
أما الناقد حسين حمودة، فأكّد أنّ الكثير ممن انتقدوا أدب محفوظ، لم يقرأوا رواية له يوماً، وكوّنوا وجهة نظر عن أعماله بالسماع. فيما رأى الناقد سمير فريد تصريحات التيار الإسلامي «اغتيالاً جديداً لنجيب محفوظ».