القاهرة | لم يتأخر الصديق الأجنبي. بعث رسالة عاجلة: «أشكرك كثيراً على الهدية، من أجمل ما قرأت في حياتي». قلت لنفسي: «لم أكن أبالغ إذاً. تناولت نسختي من رواية «الطريق»، تصفّحتها للمرة الألف مستطعماً اللغة المسحورة ومستعيداً السماء الغائمة فوق رحلة صابر الرحيمي، ومفكراً في الترجمة التي لم أقرأها وإنما وجدتها بالمصادفة تحت عنوان The search. كانت مفاجأة سعيدة في لحظة مناسبة، قلت للصديق الأجنبي آنذاك إنّ «الثلاثية» هي الأعظم و«الحرافيش» هي الأتقن، لكن «الطريق» هي المفضلة عندي. ما زلت أذكر الليلة البعيدة عند صديق بعيد، نمت في غرفة الضيوف ووجدت نسخة الرواية برسومها السحرية، واكتشفت أنني لم أقرأها قط، فانقلبت على ظهري في الغرفة الحارة مبعداً الناموس. وولجت إلى مشهد الدفن والمقبرة المكتظة بالمجرمين والعيون التي لا تكتم الفجور، ولهثت مع البطل بين المرأتين حتى ارتكبت الجريمة معه. ومن يومها، امتلكت نسخة دائمة من «الطريق». قبل ذلك بسنوات، قضيت مع الأعمال الكاملة شهرين لم أعرف فيهما ليلي من نهاري، ولا عرفت كيف أفلتت مني «الطريق» آنذاك.

أضعت ـــ بحماقة الشباب ـــ فرصاً قليلة للقاء محفوظ، أتهرب عادة من اللقاءات خوفاً من أن تخدش الصور. وفي اليوم الحار من صيف 2006، كنت أستعد للسفر إلى بيروت، عندما جلست أمام التلفزون محدقاً دامعاً في خبر الرحيل. كان التلفزيون المصري يعرض عنه وثائقياً باهتاً يبدو أنه من زمن «نوبل»، عندما خطر لي أنّني حرمتُ نفسي لمسَ التاريخ ذاته، كمن تهرّب من عشاء مع المتنبي أو سهرة مع يوليوس قيصر. قرأت من يومها الكثير عن محفوظ ولم أستطع أن أكتب عنه، ثمة أناس وأشياء أكبر منك، لأنّها تقيم في داخلك، وتتسلل في كتاباتك وأحاديثك كما تتسلل ذكرياتك وتجاربك. محفوظ وحارته وفتواته و«سي سيّد» (ه) أقوى حضوراً من الذكريات الحقيقية. عندما أفكر فيه، أفشل في استبعاد ذلك التشبيه الرديء: عند محفوظ «مادة فعالة» كتلك التي تتوافر في الدواء. المسألة تتخطى الموهبة والاجتهاد. ثمة شيء خام، جيني، مادة محفوظية تجدها في نص طوله سطر أو رواية من مئات الصفحات. تأثير أقصر أصداء سيرته الذاتية، كتأثير أطول رحلاته الروائية. ما سرّ محفوظ؟ القدرة على وضع الوجود في سطر واحد. ربما، وربما كذلك المزيج العجيب من الأمل والسخرية السوداء.