«الهدف ليس الأساس، الطريق وحده يهمّ». استشهد غسّان سلهب بقول التاو (Tao) عند سؤاله عن مسيرته السينمائيّة. بهذه الطريقة يكشف المخرج لنا طريقته في العمل. يبدو أنّ القوّة المحفّزة في أعماله هي النهج (سير العمليّة السينمائيّة) وليس الهدف (الفيلم كنتاج أخير). تتجلّى هذه المقاربة في فيلمه الجديد. «الجبل» رحلة بحدّ ذاته، لكن رحلة ذاتيّة، رحلة انسلاخ عن العالم: أن يحوّل رجلٌ متوسّط العمر وجهة سفره من المطار نحو جبل منفيّ لينزوي في غرفة فندق، هو رحلةٌ بلاغيّة، قد تذكّرنا بمغامرة أنطونيوني ـــ الأخلاقيّة ـــ في فيلمه L’Avventura من حيث الرمزيّة.
يخصّص العمل تحيّةً إلى مغنّي الكاونتري الأميركي جوني كاش. نشاهد الشخصيّة الرئيسية (فادي أبي سمرا، الصورة) تردّد أحياناً مقتطفاتٍ من أغنية When the man comes around. كان كاش رمز المغنّي الرحّالة الهائم مثل بوب ديلان. انتمى إلى عالم مغاير وضعه في عزلة فريدة اتّخذها سلهب مثالاً وملجأً لرحلته. بطلنا الأوحد مجهول الهويّة، حتى إنّه منعدم الهويّة أحياناً. المدخل المحتمل الوحيد لنمط حياة هذا الإنسان ينكشف في تواصله الأخير مع البشريّة: يُعلِم رفيقه الذي يقلّه أنّه سيمضي شهراً في الغربة، ثمّ يودّعه. لكن في المطار يطلب استئجار سيّارة. بمجرّد دخوله غرفة الفندق في قرية جبلية نائية، يتحوّل من شخصٍ إلى شخصيّة metamorphosis تشبه شخصيّة هاربة من كتابٍ لكافكا. السمات الكافكاويّة لرجلنا متوافرة هنا: يعيش في غرفة منعزلة عن العالم، حالاته النفسيّة متقلّبة باستمرار، تعابير وجهه باهتة. أمّا العنصر الكابوسيّ فموجود أيضاً. الموت يلاحق الرجل خارج الغرفة، لكن يبدو أنّ الغرفة تضعه في مأمن. يواجه الرجل الموت قبل دخول الفندق، ثمّ مجدداً عند خروجه منه، ببرودة ولا مبالاة اللامنتمي (L’étranger) عند ألبير كامو.
غنيٌّ عن القول إنّ المخرج يرى ذاته في الرجل ـــ النموذج. لكنّه ينظر أيضاً إلى نفسه بعينيّ الرجل. هل سئم سلهب الموت، فمضى في سبيله وتقمّص كاش؟ بعدما نزح في أفلامه السابقة من بيروت (حيث الناس مسحوقون بحضور المدينة القوي) إلى فاريّا، وسينزل إلى وادي البقاع في فيلمه المقبل (تحت اسم الوادي)، هل يستكشف قعر البحار؟ هل يترك لبنان؟ هل هناك أحاسيس أخرى لم يكتشفها بعد؟



* المقال الفائز بجائزة أفضل قراءة نقديّة لفيلم «الجبل» التي نظّمتها جمعيّة «متروبوليس» بالاشتراك مع جريدة «الأخبار»