القاهرة | في مصر هي مجرد شارع، ومدرسة وقطعة أرض متنازع عليها ومتحف مهجور. قصرها الفخم في قلب ميدان التحرير، تبرّعت به للدولة ليصبح متحفاً للفن الحديث. وأصبح بالفعل كذلك. لكن بعد سنوات، هدم المبنى لتصبح الأرض الفراغ ملكاً لوزير الإسكان الأسبق أحمد المغربي نزيل سجن طرة الآن. أما الشقة الفخمة في حي «غاردن سيتي» التي كانت ملكاً لابنتها، وأقامت هي فيها لفترة، فقد تحوّلت إلى نادٍ اجتماعي يرتاده المثقفون. وبات متحفها مجرّد جمعية أهلية مهمتها بناء مدارس للأيتام. هذا هو مصير تراث واحدة من أبرز رائدات الحركة النسائية العربية هدى شعراوي (23 حزيران/ يونيو 1879 ـــ 12 ك1/ ديسمبر 1947). لكن هل سيكون النسيان مصيراً لأفكار هذه المرأة مع صعود تيارات سياسية في مصر تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وترى أنّ «وجه المرأة مثل فرجها»؟...
هدى شعراوي ابنة لحظتها التاريخية، ومجتمع يخلع قيوده وأغلاله. رغم أنّها ابنة جنوب مصر، تحديداً محافظة المنيا بكل ما فيه من تراث أسطوري حول قمع المرأة وحشمتها، إلا أنّ الظروف أتاحت لها والداً سياسياً هو محمد سلطان باشا الذي كان رئيساً لأول برلمان مصري (1882)... ورغم اختلاف المؤرخين حول دورها وتراجعها عن مساندة الثورة، إلا أنّ ذلك لم يقلل من أهمية ما قامت به.
مات الأب بينما كانت صغيرته في الخامسة، تولت الأم مسؤولية تربيتها، وزوّجتها في الثالثة عشرة من ابن عمتها علي شعراوي باشا وهو أحد قادة ثورة 1919. لم تعلم الصغيرة بهذا الزواج إلا قبل نصف ساعة من حدوثه فتمردت، لكنّ صوتها كان واهناً. هكذا، وجدت نفسها أماً وزوجة ولمّا تبارح ملاعب الطفولة. بعد سنوات قليلة، بدأت ملحمة الكفاح من أجل حقوق الوطن قبل أن يكون دفاعها من أجل حقوق المرأة. كانت البداية عندما شاركت في الجهود الأهلية لمقاومة وباء الكوليرا الذي اجتاح البلاد. وفي عام 1909 نجحت في تنظيم ندوة نسائية في الجامعة المصرية حول المرأة الغربية والشرقية ومسألة الحجاب، وترأست الجلسة الأخيرة في الندوة، ففتحت الباب أمام المرأة المصرية لحضور الاجتماعات العامة، وانتزعت الاعتراف بإمكانية رئاسة امرأة لندوة عامة.
سعت إلى تأسيس عدد من الجمعيات الخيرية التي حشدت جهود النساء المصريات الراغبات في المساهمة في العمل العام مثل «مبرة محمد علي» لمساعدة أطفال المرضى عام 1909. كما ساهمت في تشكيل «اتحاد المرأة المصرية المتعلمة» عام 1914، وأسّست لجنة تحت اسم «جمعية الرقي الأدبي للسيدات».
لكن انطلاقتها الكبرى كانت مع ثورة 1919. في 16 آذار (مارس) عام 1919، خرجت على رأس تظاهرة نسائية من 300 سيدة للمناداة بالإفراج عن زعيم الثورة سعد زغلول ورفاقه. شهد ذلك اليوم التاريخي مقتل أول شهيدة للحركة النسائية التي أشعلت حماسة بعض نساء الطبقات الراقية اللواتي خرجن في مسيرة ضخمة رافعات شعار الهلال والصليب دليلاً على الوحدة الوطنية، وندّدن بالاحتلال الانكليزي، وتوجهت المسيرة إلى بيت الأمة. تحكي شعراوي عن ذلك اليوم: «بينما كنت أتأهب لمغادرة منزلي للاشتراك في التظاهرة، بادرني زوجي بالسؤال: إلى أين تذهبين والرصاص يدوّي في أنحاء المدينة؟ فأجبت: للتظاهرة التي قررتها اللجنة. أراد أن يمنعني، فقلت له: هل الوطنية مقتصرة عليكم معشر الرجال وليس للنساء نصيب فيها؟ فأجابني: هل يرضيك إذا تحرش بكن الإنكليز فيفزع بعض النساء ويولولن: يا أمي... يا لهوتي؟ قلت له إن النساء لسن أقل شجاعة منكم ولا غيرة قومية أيّها الرجال. وتركته وانصرفت لألحق بالسيدات اللواتي كنّ في انتظاري».

عندما سافرت إلى روما في بداية العشرينيات للمشاركة في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي مع وفد من النساء المصريات، التقت موسوليني الذي صافح عضوات المؤتمر. وعندما جاء دور شعراوي، قال لها إنّه يراقب باهتمام حركات التحرير في مصر. لم تصمت، بل طلبت منه أن يمنح المرأة الإيطالية حقوقها السياسية. كان هذا المؤتمر بداية التفكير في تكوين «الاتحاد النسائي المصري» الذي ناضلت من خلاله بهدف تحقيق مطالب رآها البعض تجاوزاً وكان أهمها: المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة وأهمها حق الانتخاب، وتقييد تعدد الزوجات، والجمع بين الجنسين في مرحلتي الطفولة والتعليم الابتدائي.
عندما عادت من هذا المؤتمر، رفعت النقاب عن وجهها، مكتفية بالحجاب بهدف اتاحة الفرصة للمرأة المصرية للانخراط في الحياة الاجتماعية السياسية. ثار كثيرون عليها، لكنّ كفاح شعراوي الجاد جعل الآباء يقتنعون تدريجاً برفع الحجاب عن وجه المرأة المصرية. كانت مبرراتها قوية: «كيف يرقى الرجال إذا لم ترق النساء؟ وكيف تنتظم حال بيت تنيره امرأة جاهلة لا رأي لها في الحياة؟ كيف تريد الأمة رجالاً صالحين أكفاء للحياة المجيدة القوية، إذا كانت تتولاهم في نشأتهم وتطبع تفكيرهم أمهات جاهلات وضيعات التفكير؟».
أسئلة شعراوي التي طرحتها في عشرينيات القرن الماضي، هل وجدت إجابة لها في بدايات القرن الحادي والعشرين؟ أم التاريخ يعيدنا دوماً إلى النقطة التي بدأ منها؟ هل يمكن أن تدخل أفكار شعراوي «متحف الذكريات». وعندما نقرأها اليوم، لا نتحسر بل نقول: لقد تطورنا. كيف كنّا وكيف كانوا؟ الإجابة يكشف عنها المستقبل القريب.