بين أكبرهم في السنّ ضياء العزاوي (1939)، وأصغرهم دلير شاكر (1971)، لا نلحظ تبدلات كبرى في تجارب الرسامين الـ 14 الذين يحتضن «مركز بيروت للمعارض» أعمالهم، تحت عنوان «الفن في العراق اليوم». لا نتأخر كثيراً في إعادة كل ما نراه إلى محترف عراقي محكوم بتقاليد صارمة. انطباع مماثل لا يلغي البصمات الشخصية لكلّ رسام، لكنه يجمع هذه البصمات في هوية واحدة أيضاً.

يزيد في ترسيخ هذا الانطباع أن الجميع تخرّجوا من «معهد الفنون الجميلة» في بغداد، وغادروا العراق في أزمنة مختلفة. نحن أمام دياسبورا تشكيلية تقدم دلالات متعددة عن الحوار الذي يدور بين التقاليد الراسخة للفن العراقي والطموحات الفردية التي تحكّ هذه التقاليد بتيارات موجودة في الخارج. بينما لا تغيب عن أذهاننا ذاكرة الاستبداد والحرب والاحتلال التي تسرّبت إلى أعمالهم. صفاتٌ ضيّقت المساحات أمام مجازفات تجريبية، وعزّزت الصلات بين ما تربّى عليه هؤلاء الرسامون ومغامراتهم الشخصية اللاحقة. نتذكر هنا «الندم الفني» الذي أبداه ضياء العزاوي على تأخّره في مغادرة العراق. ندمٌ يمكن سحبه على الآخرين الذين نضجت تجاربهم قبل أن يغادروا، ووجدوا صعوبات في إيجاد تسويات بينها وبين حركة الفن العالمي. المنفى لم ينفِ ممارساتهم عن ذاكرة بلاد الرافدين. التجريب حاضر، لكنه محكوم بنفوذ الموروث.
لا يمكننا تجاهل هذه الأفكار التي نراها واضحة في تجريدات العزاوي المدهشة التي تعكس خلاصة تاريخ طويل من العمل على الحرف العربي، وفنون المخطوطات، والنصوص الشعرية، إلى جانب مقترحاته المثيرة في إنجاز مجسمات ثلاثية الأبعاد عبر لصق مساحات لونية مختلفة، وأحصنته المعدنية المخترقة بالنبال.
الحروفية حاضرة في لوحات رافع الناصري (1940) أيضاً. لا ننسى أنّ كلاهما كانا من مؤسسي «جماعة البعد الواحد» مطلع السبعينيات، بينما تتحول لوحات علي طالب (1944) إلى حقل لعناصر بصرية متعددة، حيث تتجاور أشكال بشرية معذّبة داخل البؤرة الأساسية، تاركة المساحات الباقية لشذرات تجريدية وزخارف إسلامية. التجريد الغائر في التراث العباسي والمطعّم بمذاقات تشخيصية معاصرة، يتحرّر أكثر من التاريخ في تجارب من أتوا بعد هؤلاء الثلاثة. هذا ما نجده في تأثر مظهر أحمد (1956) بالفن المينيمالي. هناك تقشف في الخطوط والأشكال، لكنها محملة بدلالات سيكولوجية وروحية عميقة، ومنجزة بأسلوب مهجّن تختلط فيه تقنيات الحفر والتجريد، وتنبعث منه أصداء من كازيمير ماليفتش، وستيوارت ديفيس وباسكيا. في أعمال عمار داود (1957)، نرى ترجيعات مطوَّرة لبعض «بغداديات» جواد سليم عن تفاصيل الحياة العراقية اليومية، لكن الأشكال هنا معاصرة أكثر، إضافة إلى ميول صوفية وأشكال أسطورية ومنمنمات إسلامية مخترقة بارتجالات خطية عنيفة. تتحول القباب والمآذن والمهن الحرفية إلى عناصر أساسية في تأليف المزاج التجريدي غير المقيد بتعريف واحد. منجزات غير بعيدة عن هذا التجريد التعبيري الطليق نجدها لدى نزار يحيى (1960) الذي تؤرّخ أعماله لعالم مفقود أو مؤجل. نجد ذاكرة الحرب والنفي. يستثمر علاقته بنهر دجلة. يرسم سمكة إلى جوار قذيفة صاروخية، تاركاً للمشاهد ربط الذاكرة بالدمار. النهر يستحضر قصيدة الجواهري الشهيرة «يا دجلة الخير»، فيكرّر بورتريهاً للشاعر أمام ميكروفون. ذاكرة الحرب حاضرة لدى غسان غائب (1964) الذي يُعيد تركيب مشهديات الواقع والطبيعة داخل تجريداته، بينما تتراءى في محفورات كريم رسن (1963) وأعماله الغرافيكية، تلك الخلفيات الممحوة الملطّخة بكلمات وشظايا وأشكال بشرية. العناوين لا تخفي مراجع الرسام التي تتحرك بين «بغداد مدينة محتلة» و«شارع المتنبي» و«تحية إلى شاكر حسن آل سعيد». الواقع أن تجربة آل سعيد (1926 ـــ 2004) وتنظيراته حول اللغة والوحدات الزخرفية كان لها تأثير على معظم رسامي الثمانينيات. تأثيرات يمكن معاينة تطورها لدى نديم الكوفي (1962) الذي انخرط في التصميمات والميديا والفنون الرقمية. نجد في أعماله ترجمات فوتوغرافية لمعاني الغياب والهوية والنفي، حيث تتحول اللوحة إلى نوع من تقليب ألبومات الذاكرة الفردية والجمعية، بينما تظهر المعاني ذاتها على شكل خدوش وحروق في أعمال هناء مال الله (1958) التي توثّق مشهديات العمارة المدمرة في الحرب، وأعمال محمود العبيدي (1965) المنجزة بتقنية تكرار الأشكال والكتابة، حيث نقرأ تحت سطور من الورود الحمراء جملة: «حب في زمن اليورانيوم». ممارسات أكثر حداثة نراها في مزج النحت بالعمارة في أعمال علي جبار (1963)، والتلاعب بالصور الفوتوغرافية لدى حليم الكريم (1963) عبر معالجة النيغاتيف وإبراز العيون التي تصبح فوّهاتٍ تعكس هلع الداخل.
أخيراً، ينبغي الاعتراف بأننا أمام مناسبة استثنائية في أجندتنا الثقافية، وأنّ مقالاً واحداً يعجز عن الإحاطة بتجارب ثرية تحتاج كل واحدة منها إلى دراسة نقدية طويلة.



«الفن في العراق اليوم»: حتى 31 الحالي ـــ «مركز بيروت للمعارض». للاستعلام: 01/980650