قد تكون رتابة الحياة دافعاً للانتقام من الحياة نفسها، وربما التخلص منها على أمل في حياة أفضل. مهما بدا الثمن باهظاً، يغدو عبور الحدود تخطياً لما يبدو مصيدة أبدية، وتجاوزاً لاستقرار ليس فيه من الاستقرار شيء. جديد المخرج المغربي حكيم بلعباس «شي غادي وشي جاي» (الفائز بجائزة أفضل تصوير وسيناريو في «مهرجان دبي السينمائي») يقول لنا ذلك، وعنده الكثير مما يضيفه بخصوص «الحراقة». هذا رغم أنّ أفلاماً كثيرة توالت على رصد عوالم المهاجرين غير الشرعيين.
أفلام تضيء على جحيم حيواتهم وهم يتطلعون إلى فردوس الشواطئ الأوروبية، التي لا يصلون إليها في أغلب تلك الأفلام، والمصائر المآساوية تترصّد بهم، بينما ترصد أفلام أخرى كيف تنقلب الجنة إلى جحيم بمجرد وصولهم إليها.
يرتكز فيلم «شي غادي وشي جاي» أكثر على مصائر الناس، الذين يخلّفهم وراءه ذاك الذي يخوض غمار عبور البحر إلى أوروبا، أو ما يعرف بـ «الهجرة غير الشرعية». نتعرف إلى ذاك الأب الذي يهجر عائلته المؤلفة من زوجة وابن وابنة. يبدو انتظارهم أن يتصل بهم ضرباً من العبث، كما لو أنهم في انتظار غودو. إنه هاتف وحيد لجميع سكان القرية موجود لدى البقالة الوحيدة في تلك القرية، التي لا ينقصها جمال الطبيعة، بينما يسودها كل ما هو نقيض ذلك الجمال، وأوله ذلك الفقر.
يغادر الأب القرية في لقطة تحفر في الذهن، إذ ترمى عليه الورود ويرش بماء كما لو أنه يعمّد، بينما عيناه معلقتان في البعيد. ومع رحيل الأب، سيهبط البؤس تدريجاً على عائلته الصغيرة، وسيكون العوز نقطة انطلاق نحو تغيرات كثيرة، ونحن نتعقب الولدين وهما يبتكران كل ما يتيح لهم تسجية الوقت في سهول وجبال وأودية مترامية. أما الأم، فترزح تحت وطأة استغلال صاحب البقالة، ونحن نراها تخرج من محله محمّلة باحتياجاتها، وقد عجزت قبل ذلك عن تسديد مستحقاتها المالية، وصولاً إلى اقتحامه بيتها.
يكون الأب في غابة مجاورة للبحر برفقة مجموعة من البشر من أعراق وجنسيات مختلفة، ينتظرون القارب الذي سيقلّهم، وسرعان ما سيلتحق به صديقه من القرية نفسها. وفي مسار مواز يحتل المساحة الأكبر من الفيلم، نعيش أيام عائلته في غيابه، وقسوة ما تتعرض له. يمضي كل ذلك في سرد بصري أخاذ. هكذا، تأتي قوّة الفيلم من الكيفية التي قدّمت بها أحداثه والتوليفة البصرية والمشهدية التي استثمرها بلعباس، ليروي لنا قصته بالاتكاء على قوة صورته وتعبيريتها وقدرتها على قول كل شيء.