القاهرة | جروح غائرة نهشت جسد مصر الثقافي: عشرات آلاف الكتب المصرية والعالمية النادرة حرقت على مرأى من قوات الجيش، قبل يومين، في مشاهد مأساوية، تشبه كثيراً تدمير مكتبة بغداد، على يد المغول قبل سبعة قرون (1258). حريق مقرّ المجمع العلمي الذي تأسس مع حملة بونابرت على مصر (1798)، كشف عن الوجه القبيح للمجلس العسكري. وقف جنوده يتفرجون على الأمين العام للمجمع محمد الشرنوبي باكياً كطفل فقد أمه. ظلّوا يضحكون على الرجل الذي طلب نجدتهم، فتركوه ليصعدوا سطح المبنى المحروق، ويقذفوا الثوّار بالطوب وقنابل المولوتوف.
سارع بعض الثوّار إلى تكوين فريق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكتب النادرة، وتمكّنوا فعلاً من إنقاذ عشرات الكتب، وسلّموها لعدد من ضباط الجيش. ثمّ حملوها مع فريق من «مكتبة الإسكندرية» ومتطوعين، إلى «دار الكتب والوثائق المصرية» التي قرر الدكتور شاكر عبد الحميد فتحها أربعاً وعشرين ساعة لاستقبال بقايا الكتب والمخطوطات النادرة. بقي محمد الشرنوبي واقفاً أمام المجمع العلمي في شارع الشيخ ريحان، يصرخ: «كارثة. كارثة. تاريخ مصر يحترق يا بشر»... انتظر وصول سيارات المطافئ، لكنّها لم تأت إلا عندما أجهزت النيران حتى على أثاث مكتبة المجمع العريقة. الرجل كاد يصاب بأزمة قلبية. أجلسه ثوار وشباب من «الجامعة الأميركية» على الرصيف المواجه للمجمّع. بعض الثوار اتهم صراحة المجلس العسكري بتدبير حريق المكان لإلصاق التهمة بالمتظاهرين. أحد الثوار قال إنّ العسكر لا يعرفون حتى ماذا يعني «المجمع العلمي»، ولا يفقهون شيئاً من قيمته التاريخية... «والله همّ اللي حرقوه».
«مكتبة «المجمع العلمي المصري» تضم قرابة 50 ألف كتاب من أمهات الكتب، وكان يمكن إنقاذها بالطائرات كما حدث أثناء حريق مجلس الشورى (آب/ أغسطس 2008)»، يقول أمين المجمع العلمي المحروق. ويطالب الشرنوبي بمحاكمة كل المتورطين في حرق تاريخ مصر. «الثوار الذين أنقذوا المتحف المصري من السرقة في الأيام الأولى للثورة، أسهموا في انتشال عدد من كتب المجمع السليمة. من أحرق المجمع، استفاد من استمرار الفوضى في البلاد. أطالب بتحقيقٍ عادل ومستقل في الكارثة الحضارية التي حلّت بمصر».
وزارة الثقافة ألّفت أخيراً لجنةً لترميم الكتب والمخطوطات التي يمكن علاجها بالترميم، وهي تضمّ خبراء من «المجلس الأعلى للآثار»، و«المجلس الأعلى للثقافة»، و«مكتبة الإسكندرية»... لكنّ خالد عزب، الباحث في التوثيق، ومدير إدارة الإعلام في «مكتبة الإسكندرية» يقلّل من أهميّة الخطوة «المتأخرة جداً، لكنّها واجبة طبعاً». وقال عزب لـ«الأخبار» إنّ «المشكلة الرئيسية ليست في الترميم. سترمم بعض الكتب، كذلك إنّ بعضها الآخر متوافر بنسخة رقميّة، وسنعيد طباعتها. المشكلة: كم بقي أساساً من الكتب السليمة؟ هناك نوادر الكتب التي تمثّل تراثاً للحضارة الإنسانية كلّها، لا لمصر وحدها. سنحاول إحياء ما بقي. لكنّ ما جرى هو كارثة تاريخية فعلاً».
يعدّ «المجمع العلمي» من أعرق المؤسسات العلمية المصرية. وتضمّ مكتبته قرابة مئتي ألف كتاب، فضلاً عن خمسين ألفاً من المخطوطات التاريخية النادرة، أبرزها أطلس عن فنون الهند القديمة، وأطلس باسم مصر الدنيا والعليا، أُلِّف عام 1752، إضافة إلى أطلس ألماني عن مصر وإثيوبيا يعود إلى عام 1842. وضمّت المكتبة أيضاً النسخة الأصلية من كتاب «وصف مصر» الذي يضم 20 مجلّداً، كتبها علماء وخبراء فرنسيون من كل التخصّصات، وجرى تجميعها وكتابتها إبان الحملة الفرنسية على مصر.