ارتبطت «الديفا الحافية» في ذاكرتي بأغنية Besame Mucho أكثر من أيّ أغنية أخرى... رغم أنّ الأغنية ليست لها في الأساس، ولم تكتب بلغتها الأم. لكنّ الأغنية التي كتبت في عام ولادة سيزاريا إيفورا، ارتبطت بها، وصارت النسخة المغناة بصوتها أجمل تسجيلات الأغنية الشهيرة... حين علمت برحيل إيفورا، لم أسمع أغنيتي المفضلة. شعرت بأنّه من واجبي الاستماع إلى «سوداد»، الأغنية التي ربطها النقاد كثيراً بحياتها، وذلك لجمال الأغنية، وثقلها في الوقت ذاته. تعني كلمة Sodade أصعب أنواع الشوق، ولحنها الغارق في موسيقى الفادو البرتغالية، محمّل بالكثير من الحزن، والفراق، والوداع، وأمل اللقاء. رحت أبحث عن فيديو للأغنية على موقع يوتيوب، فوقعت على تسجيل مدته 7 دقائق، من إحدى حفلاتها الموسيقية. على المنصة، وإلى جانب الفرقة الموسيقية، وُضعت طاولة مغطاة بشرشف أزرق، عليه زجاجة، وكأس، ومنفضة ملأى بالسجائر. جلست إيفورا على كرسي أمام الطاولة، بدأت العزف، والسيجارة المشتعلة لا تزال في يدها.
لم تقف فوراً، بل انتظرت أن يحين موعد غنائها، فوضعت السيجارة على المنفضة، وقامت لترقص وتغني. تقول الأغنية: «من سيدلّك على الطريق البعيد؟ الطريق إلى ساو تومي (جزيرة)؟»
كم يشبه هذا المقطع المصوّر حياة ابنة رأس الأخضر التي اعتزلت قبل ثلاثة أشهر، بعد تدهور حالتها الصحيّة إثر إفراطها بالتدخين وشرب الكحول. نراها جالسةً على الكرسي بكامل سكينتها، غير مستعجلة على شيء حتى الغناء. الموسيقى تستطيع أن تنتظر لحين انتهاء هذه السيجارة، وهذه الكأس. انتظرت الموسيقى طويلاً. هي لم تسجل باكورتها إلا عام 1988، حين كانت في السابعة والأربعين.
بعدما غنّت المقطع الأول، علت الموسيقى من جديد. فرجعت حافية القدمين إلى طاولتها وسيجارتها. جلست ومسحت العرق عن جبينها. في هذه الأثناء، كان أحد عازفي الغيتار يتجوّل على المسرح مبتسماً، وجاء ليقف وراءها، كأنّه يحاول ملاعبتها. لم تنتبه له، ولم تجاره في لعبته، بل واصلت طقسها الخاص: تسمع الموسيقى، وتدخّن سيجارتها. حين لاحظت وجوده أخيراً، أطلقا معاً ضحكتين تلقائيتين وعاليتين.
عادت لتحمل المايكرفون، ووقفت لتنهي أغنيتها الحزينة، بخفة وسعادة. ضحكت ضحكة خجولة. كأن الجمهور سينسى الشوق بعد قليل، ليبقى معها، هي وحدها كالصدى... بعد وداعها الأخير، ستبقى أغنية «الشوق» هذه تحكي قصتها. لكنّ الديفا لن تسمع بعد الآن تصفيق الجمهور. لكنّ الملايين حول العالم لن ينسوها، ولن ينسوا الـ «سوداد»، وذاك الطريق الطويل.