صباح الجمعة الفائت، تخلّص بوغوص جيلاليان (الصورة) من عذابات المرض، ورحل بصمت، بعد دخوله في غيبوبة دامت ستة أسابيع بحسب أقاربه. في عصرنا البائد، ترحل شخصيات شهيرة ـــ ليست بالضرورة من أصحاب الأيادي البيضاء في الفن ـــ فينتشر خبر رحيلها كالنار في الهشيم. الموسيقي القدير بوغوص جلاليان دخل ستة أسابيع في غيبوبة قبل أن يتركنا منذ أيام، ولم نعرف ذلك إلا بالمصادفة! أما موسيقاه، فرزحت تحت وطأة الإهمال والنسيان، لولا بعض المحاولات المحليّة لأدائها، وآخرها ما قدّمته عازفة البيانو تاتيانا بريماك ـــ خوري الشهر الماضي، ضمن مشروع لإحياء المؤلفين الكلاسيكيين اللبنانيين المتروكين، وفنّهم، لمصيرهم.

هو مؤلف وموزّع موسيقي وعازف بيانو من أصل أرمني، ولد عام 1927. جاء إلى لبنان عام 1939، وتابع دراسته الموسيقية، التي كان قد بدأها قبل سنوات. اتجه جلاليان نحو الثقافة الكلاسيكية الغربية، فوضع العديد من المؤلفات بأشكال مختلفة (مقطوعات بيانو منفرد على نحو خاص). إلّا أنه لم يقطع صِلاته بالألوان الموسيقية الشعبية الشرقية، بحكم بيئته ومحيطه، فكانت له العديد من تجارب التوزيع الموسيقي في الأغنية اللبنانية.
إضافة إلى ذلك، كان جلاليان من أهمّ المعلّمين في لبنان خلال النصف الثاني من القرن الماضي، شأنه شأن العديد من الموسيقيين الأرمن، الآتين من الصرامة الأكاديمية ذات القواعد السوفياتية أساساً. كثيرون تتلمذوا على يديه، أبرزهم زياد الرحباني، الذي رأى فيه أستاذه موهبة واعدة، كما كتب له مرّةً على غلاف أسطوانة كلاسيكية أهداه إيّاها. أهمية الأسطوانة المذكورة (للأسطورة فلاديمير هوروفيتز)، بالنسبة إلى باحث في التسجيلات الموسيقية الكلاسيكية كجلاليان، تؤكد ثقة مانحها بتلميذه الاستثنائي. أمّا قيمة زياد الفنية التي نعرفها اليوم، فتؤكّد صِدق الملاحظة وصوابيّتها.
قبل أشهر، اتصلنا بزوجته بغية الحصول على لقاء معه، قالت إنه لا يحبّ الكلام، وبات يعاني مشاكل في الذاكرة، ولا يطلب سوى الاستماع إلى روائع المؤلفين الكبار (والمقصود ليس أقل من باخ). هكذا سكت بوغوص سنوات، ودخل في غيبوبة أسابيع، وها هو يخلد إلى سكون أبدي. كل ذلك، ربما، ضمن استراتيجية الصمت، العنصر الأهم والأجمل في الموسيقى.