رغم أن الكثير من علماء الاجتماع والنفس والانتروبولوجيا يتحدثون عن عودة دورية للمعطى الديني، ومن بين هؤلاء المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان الذي رأى أنّ القرن الحادي والعشرين هو عصر الدين بامتياز، فإن أطروحة اوليفييه روا «الجهل المقدس ـــ زمن دين بلا ثقافة» (دار الساقي ـــ 2012) تعالج إشكاليات مختلفة، تنطلق من التحولات التي تشهدها الأديان في العالم تحت معالم متداخلة، تبدأ بالهوية والعرق والاقليم والتهجين الى أن تنتهي بمشاكلة دينية عابرة للقوميات. في كتابه الصادر بالفرنسية عام 2008، والذي عرّبه صالح الأشمر، يتطرق صاحب «فشل الإسلام السياسي» الى فرضيتين أساسيتين: رفض مقولة عودة الدين، وتأكيد التحول داخل الأديان نفسها. يجهد روا في تفكيك التجاذب المحموم بين الثقافي والديني، ليصل الى نتائج مختلفة، يمكن وضعها تحت عنوان عريض: العالم اليوم يشهد إقبالاً كثيفاً على التحول من الديانة الأصلية الى ديانة جديدة، تحديداً على الجبهتين البروتستانتية والسلفية الإسلامية.
وحين يشير الكاتب والباحث الفرنسي المتخصص في الشؤون الإسلامية، الى زمن الديني بلا ثقافة، فإنه يعني بذلك أنّ الأديان تجتذب الأتباع من خارج الثقافات المقترنة بها تقليدياً، ما يعكس حجم التحولات التي يتبناها الأفراد، بانتقالهم من دين الى دين، خصوصاً داخل الاتجاهات الدينية التي لا تعير اهتماماً لما هو ثقافي، فتبني علاقتها على أسس عالمية تتخطى بلاد المنشأ.
بين الديني والثقافي، حال من المد والجذر، يحاول روا رصدها. وهو الى حد كبير يغلب الأول على الثاني، ما يدفعنا إلى طرح إشكالية مضادة للإشكاليات التي تحقق منها صاحب «نحو إسلام أوروبي»: الى أي مدى يمكن عزل الثقافي عن الديني؟ وهل يمكن الحديث عن دين لا يتثاقف مع الفضاء الوافد اليه؟ يصل الكاتب الى نتيجة جوهرية مفادها أن الأديان الأشد قدرة على اختراق الطبقات والقوميات والأعراق هي التي تجذب المتحولين، على اختلاف انتماءاتهم. وهؤلاء بدورهم يعملون على إضفاء صيغ جديدة بعد تحولهم الى «مولودين جدد» فيسبغون إرثهم على الدين الجديد، ما يؤدي الى خلق نوع من المشاكلة، أو النماذج الهجينة التي تفعلها العولمة وثقافة السوق.
تتصدر الكاثوليكية جبهة المغلوبين في الظاهرة التي يدرسها روا. هي غير قابلة للتفلت من المعلم الثقافي، بسبب تصلبها. وهذا التصلب نجده عند اليهودية والهندوسية. والى جانب ذلك، فهي تعاني من أزمة فقدان الحماسة للانخراط في سلكها الكهنوتي، على عكس البروتستانتية، بمذاهبها المتعددة، والأصولوية الإسلامية، الأفضل تكيّفاً مع العولمة. لماذا يصبح عشرات الآلاف من المسلمين في آسيا الوسطى مسيحيين أو شهود يهوه؟ وكيف أمكن لكنيسة بروتستانتية إنجيلية أن تتجذر في المغرب أو الجزائر؟ وكيف أضحت القاعدة التنظيم الاسلامي الذي يضم أكبر نسبة مئوية من المتحوّلين الى الإسلام؟ ما الذي يحدث عندما ينفصل الدين عن جذوره الثقافية؟ ولِمَ تبدو الأديان اليوم كأنها هي التي تضطلع بإعادة ترتيب للهويات؟
عبر هذه الإشكاليات، يتعقب روا الأدوار التي يلعبها الدين بلا ثقافة، فارتفاع نسبة المتحولين في العقدين الأخيرين، أجبر روسيا على الاقرار بقوانين تحدّ من عمليات التحول دينياً، على غرار الجزائر الذي ينص قانونها على منع التبشير. ما الذي يجري في العالم؟ المستفاد من الأفكار التي تطرق اليها صاحب «عولمة الإسلام» أنّ الدين المحرر من بعده الثقافي يتجاوز الحدود الهوياتية ويجذب اليه الانتماءات الأخرى، على تعددها، إلّا أن الوافدين الجدد يحملون معهم الموروث المحلي ويسعون الى توفير نوع من المواءمة، ما يسهم في تقوية الأديان الهجينة، كإنسان هذا العصر الذي يمتلك أكثر من هوية بصرف النظر عن قلق العودة الى الجذور.
مفصل أساسي تحكّم بأطروحة روا، يتمثل في التجاذب الحاد بين الديني والثقافي. ورغم المرونة التي يكتسبها الدين المعولم (أي الدين الذي يلبّي شروط العولمة ويصبح عالمياً ويقدم نفسه على أنه غير ثقافي) الذي تخطى أزمة المنشأ وتشاكل مع القوميات، لكن هذا لا ينفي بالضرورة نتيجة مهمة، يمكن اكتشافها تدريجاً، أن الثقافي يتماهى أيضاً ويكيّف نفسه مع البيئات الجديدة، وإلا فكيف تفسر لعبة الرموز الموروثة التي يضفيها المتحولون على الديانة التي دخلوها، سواء كان التحول من الاسلام الى المسيحية أو العكس.
ينتقد الكاتب بشدة مفاهيم التثاقف والتعددية وصراع الحضارت. ويرى أن الأديان القادرة على تجاوز منابعها، تمتلك مفتاح جذب الأفراد اليه، فالدين حين يتجرد من هويته الثقافية يمكنه التأسيس لأكبر قاعدة من المناصرين، القدماء والجدد، وعلى هذا، يمكن أن نفهم لماذا تمر الكاثوليكية في مأزق، بينما تشهد المذاهب البروتستانتية ذروة تمددها في العالم.
ثمة معلم آخر يلحظه روا: «المتحولون يتشاكلون مع البيئة المحيطة بهم». وهنا يستشهد بالسود الأميركيين الذين اعتنقوا الإسلام، فهؤلاء «يستخدمون الإسلام لتعزيز الذاتية السوداء» ويحاولون إذابة هويتهم في جماعة مؤمنة أوسع، كالمسيحية على سبيل المثال. التحولات لا تقتصر على انتقال الأفراد من دين الى آخر. للأديان التي قطعت مع العرقية والاقليم والثقافة المحلية، خياراتها. وعلى هذا يمكن فهم تعدد الكنائس في البروتستانتية، ما يشير الى ولادة تساؤلات دائماً، تجيب عنها الفورة غير المسبوقة للفرق والمدارس والبدع المنتشرة عند مختلف الديانات التوحيدية وغير الألوهية.
التحولات الكثيفة التي نشهدها تحدث على المستوى الفردي وليس الجماعي، والأديان التي ربحت معركة السوق اكتسبت عالميتها من انفصالها التدريجي عن الهوية الذاتية. فرضيتان يعمل روا على دراستهما في مواضع مختلفة، وقد نجح في ذلك، خصوصاً أنه اعتمد على احصاءات وأرقام ووقائع. يبقى هناك مؤشر مهم لم يتحرَّ عنه الكاتب بالشكل المطلوب: العلاقة التبادلية بين التحولات والرموز الدينية، فهو لم يفسر لنا الإحياء الكثيف للرموز عند الديانات كافة، بما يعكسه من تداخل حاد بين المحلي والعالمي. عدا هذا، سلّط معظم دراسته على ظواهر التحول في الغرب بفعل الهجرات المستدامة من عالم الجنوب الى عالم الشمال، ولم يعالج دور الارساليات التبشيرية في تأجيج ظاهرة «المتحولين» تحديداً في الجزائر. قد يبدو القرن الحادي والعشرون قرن التحولات والارتدادات، داخل الدين وخارجه. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى خصائص أساسية تتمتع بها ديانات ما بعد الحداثة، التهجين والتكيّف ومقاومة العولمة بأدواتها.
السلفية الإسلامية تحمل شعار الإسلام الشمولي، والمسيحية البروتستانتية اقتلعت الثقافي لصالح الديني، والبوذية طوعت عقائدها وانتشرت في أوروبا، والكاثوليكية تعيش في أزمة بنيوية ولا تريد الانفصال عن أصولها... وهذا كله يعكس القلق الذي تعيشه الهويات الدينية والإثنية المتصادمة مع العولمة.