إحياءً للذكرى المئوية الأولى لرحيل أحد كبار مطربي عصر النهضة في مصر، يوسف المَنيلاوي (1847 ـــ 1911)، أصدرت «مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» أخيراً علبةً فائقة الأناقة تستحق أن تكون هدية بامتياز. تضم هذه التحفة عشرة أقراص مدمجة وكتاباً باللغة العربية (318 صفحة/ دار الساقي) إضافة إلى كتابٍ ثانٍ باللغتيْن الإنكليزية والفرنسية يورد أبرز المعلومات التي تتناولها بإسهاب النسخة العربية. في عام 1905، بدأ يوسف المَنيلاوي تسجيل الأسطوانات بعد وصول الشركات الأوروبية إلى مصر (عام 1903)، وترك عشرات الروائع من أدوار وقصائد ومواويل وموشحات. جمَعَت «مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» معظم الأسطوانات الأصلية، ثم نقلت المادة الصوتية من الأسطوانة إلى الأجهزة الحديثة لمعالجتها و«تنظيفها» من الشوائب. أما النتيجة، فأعمالٌ وُصِلَت أجزاؤها لتصبح كلّاً متصلاً، إذ إن سِعَة الوجه الواحد للأسطوانة آنذاك يراوح بين 3 و4 دقائق.

الكتاب يحمل عنوان «يوسف المنيلاوي، مطرب النهضة العربية ـــ عصره وفنّه»، توقيع الباحث المستعرب فريدريك لاغرانج، ومحسن صُوّه، أحد مؤسّسي منتدى «زمان الوصل للموسيقى الكلاسيكية الشرقية»، ومصطفى سعيد، الفنان المصري والباحث المقيم في لبنان. الشخصيات الثلاث توحي بالثقة لمَن يعرفها ولو بالاسم. ورغم أنّ أسلوب الكتابة أمكنه أن يكون أكثر سلاسةً (جمل أقصر مثلاً)، إلا أنّ القارئ لن يستطيع مقاومة انتقال شغف هذا الثلاثي بالمادة المُتناوَلة إليه.
بدايةً، يجب التنويه بالمنحى العِلميّ ـــ تحديداً جانب الشك منه ـــ الذي يعكس دقة وأمانة في وضع هذا الكتاب. فعلاً، يندر هذا الأسلوب في وطننا العربي. من يقرأ مثلاً أهم كتاب عن موزار (للفرنسيَّين جان وبريجيت ماسان)، يُذهَل إلى حدّ الانزعاج مِن عدم ثقة واضعَيْه بأبسط معلومة ما لم تكن موثّقة ومستنِدة إلى مرجعيْن على الأقل. الكتاب الحدَث عن المنيلاوي هو من هذا الطراز.
أهم ما في الكتاب أنه يحوي أكبر عدد من المواضيع المتصلة بالموضوع الأساسي، يقاربها الباحثون بتفاصيلها. يضاف إلى ذلك، الجانب الأكاديمي الموسيقي البحت الذي لا يمثّل عائقاً أمام القارئ غير الموسيقي، باستثناء فقرة النماذج التحليلية التي تتطلب معرفة كافية بأصول الموسيقى، وخصوصاً الشرقية. تحت عنوان «عصر المنيلاوي»، يفنّد الكتاب عصر النهضة من مختلف جوانبه. يتناول أعلام تلك الفترة، ويعرِّف بالأشكال الموسيقية والغنائية. كذلك يضيء على عمل شركات الأسطوانات ودورها في ترويج موسيقى النهضة. أما فقرة «فن المنيلاوي» فيخصّصها الباحثون للكلام على رصيده المسجَّل وصوته وأسلوبه في الغناء... ثم يفرد الكتاب مساحة لتحليل عشرة نماذج من أعمال المنيلاوي المسجَّلة. وفي الشق الأخير، نجد جميع نصوص الأعمال التي نسمعها في الأسطوانات العشر مرفقة بملاحظات تاريخية أو أدبية أو موسيقية.