أخيراً تمكّن أحمد قعبور من تحقيق حلمه، وأصدر أسطوانة «أحمد قعبور يغني عمر الزعنّي» («نادي لكلّ الناس»). الفنان الخمسينيّ الذي لطالما خشي «أن يصاب الشعب اللبناني بمرض فقدان الذاكرة»، يحاول صون ذاكرة بيروت، مستعيداً أغاني «فولتير العرب» التي تمثّل تراثاً مدينياً منسيّاً. رغم قتامة الواقع الذي يعكسه الألبوم، تشفّ معظم المحطّات الغنائية عن «رومانسية ثورية»، وتكشف سرّ عاصمة هشّة وجبّارة في آن؛ تغرق في غربتها، وتُكابر متظاهرةً بترفها وانشراحها، وتنبعث من رمادها كالعنقاء كلّما أهلكت.
حين تعيد سماع أغنيات الزعنّي تكتشف أنّ كلّ شيء تغيّر مذّاك، لكنّ شيئاً لم يتغيّر! الوطن الذي تنخره الطائفية لا يزال سراباً. التغيير أمسى حلماً وضرباً من اليوتوبيا. دائماً ما تُجهَض النضالات، وتستثمر التضحيات حفنة من محترفي الغدر والتضليل وتقنين الاستغلال. هكذا هو لبنان، برعم في مهبّ الريح، وقُفّة مثقوبة. يدهشنا عمر الزعنّي لا بمواقفه «الطبقية» وتمرّده ونظرته الثاقبة ولهجته التهكّمية فحسب، بل أيضاً بذلك الحسّ الدرامي والتراجيكوميدي. «عمر الزعنّي من آباء الأغنية اللبنانية قبل ولادة الجمهورية اللبنانية التي كان يتوق إلى قيامها... وحين تأسّست كان أوّل ضحاياها»، يقول قعبور، ثم يضيف: «كان شاهداً على تحوّل بيروت من مدينة آمنة على المتوسّط، إلى مدينة كوسموبوليتية، وبالتالي على التغيّرات التي طرأت على هويّتها، فأصبحت المدينة «بطلة» أغنياته». بأسفٍ يحدّثك صاحب «أناديكم» عن بيروت بعيْنَي الزعنّي، مردّداً: «بيروت يا حينها ويا ضيعانها/(...)/ الجهّال حاكمين والأرذال عايمين والأنذال عايشين/ والأوادم عم بتموت» (أغنية «بيروت زهرة في غير أوانها»/ 1930). ثمّ يخبرك باعتزاز عن «مدينة احتضنت أعرق حركة ديموقراطية، وقاومت أعتى الاحتلالات». من الواضح إذاً أن ما يجمع قعبور والزعنّي هو بيروت قبل كلّ شيء.
إعادة إحياء التراث على نحو مغاير، ليست سهلة. العودة إلى الينابيع تمثّل اليوم همّاً وهاجساً في العديد من ثقافات عالمنا المعاصر، مع اتّساع هامش التثاقف في زمن العولمة، وبروز أزمة الهوية. يتلطّى بعضهم خلف التراث في ردّ فعل واحتجاج على موجة الفنّ التجاري المهجَّن وظاهرة «التغريب»، بسبب عجزهم عن مواجهة التحدّيات الراهنة. لكنّ قعبور يقارب التراث البيروتي على اعتباره ذخيرة ثقافية وفنّية، ومادة قابلة للتعديل والتطوير. يخطئ بحقّ التراث الذين ينظرون إليه بمحدودية ودُغماتية، ويبعثونه روحاً محنّطة. لم تخلُ أعمال سيّد درويش وعمر الزعنّي وغيرهما من تمرّد على القواعد الراسخة، ومثّلت «ثورة» على ما كان سائداً في عصرهما، قبل أن تتحوّل إلى تراث، ما يؤكّد أنّ التراث ليس «تركة مقدّسة».
يُحسب لصاحب «بدّي غنّي للناس» سعيه إلى تعريف الجيل الجديد بفنّان راديكالي مهّد لانتشار الأغنية الملتزمة في لبنان، وإلى مواكبة لغة العصر في هذه الاستعادة. اختار روافد مختلفة (الموسيقى العربية واللبنانية والروك والبوب...)، وبدا انتقائياً في اشتغاله على نتاج الزعنّي. الأسطوانة التي تضمّ عشر أغنيات (توزيع مازن سبليني)، وشاركت فيها غناءً نادين حسن، تتميّز بالطاقة التي تختزنها أغنيات الزعنّي وحنجرة قعبور... لكنّها تفتقر إلى أسلوبية ورؤية خلاقتين على مستوى التوزيع تحديداً، باستثناء ثلاث أغنيات. نكتشف في هذا الألبوم أنّ عمر الزعنّي لم يكن زجالاً قديراً فحسب، بل كان أيضاً ملحناً موهوباً تأثّر به محمد عبد الوهاب («بدنا بحريّة يا ريّس»/ 1932). إنّه حكاء طليعي يروي سيرة وطن سقيم، ومدينة ظليلة بلا
أسوار.