إنّه عام الخيال الحر. خيال بلا حدود فى مواجهة سلطة بلا خيال تقريباً. في السنوات الماضية، كان بإمكاننا تلخيص العام في جملة واحدة: «عام الغياب» أو «عام الرواية». كانت الجملة هروباً من الحديث عن أشهر تمضي بلا أحداث تقريباً. الأشياء تتكرّر بإيقاعها الرتيب والممل. منذ «ثورة 25 يناير»، اختلف الأمر. فتحت الثورة النوافذ لاحتمالات إبداعية وثقافية عديدة. قبل هذا التاريخ، لم يتوقع أحد أن تعزف فرقة موسيقية «كورال يوتوبيا» أغنياتها أمام قصر «عابدين» قصر السلطان العالي، الذى كان مجرد الاقتراب منه مغامرة محفوفة بالمخاطر. غنت الفرقة وغنى معها المئات أمام القصر: «قولوا للحاكم جوا القصر.. أنتو عصابة بتحكم مصر». في «الميدان» ثمة روح جديدة، تترك مساحة من الارتجال قد يصيب أحياناً، وقد يخطئ أحياناً أخرى. فنون قديمة ورؤى جديدة، حتى بدا العام كأنه عام «الفنفنة» والتعبير، للأكاديمي أشرف الشريف، الذي يرى الصراع طوال عام 2011 كأنه صراع بين نموذجي حياة: الضبط الاجتماعي وسياسات الكآبة والتحكم وتطبيع البلادة، في مقابل بهجة الإيقاع وتحرير المزاج من أغلال السائد الاجتماعي.
ربما كان تحرير المزاج من أغلال السائد أبرز ما قامت به الثورة في 2011. وربما لهذا أيضاً يمكننا أن نسمّي 2011 عام «الإبداع الجماعي» أو المقاومة بالفن. الفنون أعلنت أنّ «الشارع لنا» وفق مقولة صلاح جاهين الخالدة. الأدب والفن والموسيقى كانت إرهاصاً بتغيّر فرضته الثورة، ليس فقط في العاصمة، بل في الأقاليم أيضاً. التشكيليون الذين قدموا واحداً من شهداء الثورة (زياد بكير)، خرجوا ليرسموا إبداعاتهم على جدران الشوارع: فنانو الغرافيتي (جنزير، موفا، التنين...) أدوا دوراً مهماً في الثورة ولا يزالون، وجيل جديد من المبدعين سجّل لحظات الثورة، ومعهم أصبحت المدينة «غاليري» كبيرة مفتوحة لجمهور من العابرين. القصائد والأشعار والشعارات كلّها حملت طابعاً إبداعياً جديداً. ستفرز الثورة هذا العام أسماءً مثل فيروز كراوية، وحمزة نمرة، ورامي عصام، ومحمد محسن، و«كورال يوتوبيا» وعشرات الأسماء والفرق والشعراء والموسيقيين...
بالتأكيد هناك أحداث عديدة مرت وسط هذا الحراك السياسي والإبداعي. صدرت روايات مهمة لم يلتفت إليها النقد مثل «الطغري» ليوسف رخا، و«العهد الجديد» لخالد البري. وأعادت الثورة أحمد عبد المعطي حجازي الى الشعر في ديوانه «طلل الوقت»، الذي لم يرض عنه النقاد، وواصل عبد الرحمن الأبنودي إبداعه الكاشف والصادق المدافع عن «الميدان». ورحلت أسماء مثل الروائي خيري شلبي، والتشكيلي أحمد حجازي، والممثلين كمال الشناوي، وهند رستم، وعمر الحريري والكاتب الصحافي أنيس منصور. وتواصلت المعارك الفكرية مع دعوى أطلقتها «هيئة مفوضي مجلس الدولة في مصر» (هيئة قضائية رفيعة)، وطالبت فيها بسحب جائزة الدولة التقديرية من الكاتب والباحث سيد القمني (1947) الذي اتهمته جماعة الإخوان المسلمين بأنّه «مارق عن أحكام الله وتعاليمه». كذلك، اتهم المجلس العسكري ناشر «دار ميريت» محمد هاشم بتوزيع الخوذ والكمامات للمتظاهرين. وقبل ذلك،دخل الناشر المعروف في إضراب عن الطعام احتجاجاً على المحاكمات العسكرية فاستحق جائزة «هيرمان كيستن»، التي تكرّم الكتّاب المناضلين. وحصلت رضوى عاشور على جائزة «العويس». أقيمت معارض ومهرجانات هنا وهناك، لكن الحقيقة المؤكدة أنّه في 2011 علّق المصريون ــ عبر اللوحة، والأغنية، والقصيدة ــ شعار «ذيل حمار طويل في مؤخرة الدكتاتور» كما يقول ماركيز. هذا الخيال الجديد لا يمكن محاصرته لا باسم الدين، كما يريد مدعو امتلاك الحقيقة المطلقة، ولا باسم السياسة. بالتأكيد 2011 هو عام سقوط الجنرال والفقيه...