في 11 أيلول 2017، وجّهت شركة التعدين الكندية، «إلدورادو»، إنذاراً أخيراً إلى الحكومة اليونانية. هددت بوقف كل أعمالها في اليونان، إن لم تحصل، بحلول 21 الشهر نفسه، على التراخيص اللازمة لتوسيع نشاطاتها الربحية في منطقة «هالكيديكي». وكانت الحكومة قد تأخرت في إصدار هذه التراخيص بسبب اتهام الشركة بمخالفة شروطها التعاقدية، ولا سيما ما يتعلق بالمعايير البيئية. في 14 أيلول، وبموازاة نزول عمّال التعدين إلى الشارع خائفين على وظائفهم، توصل الطرفان إلى اتفاق لم يعلن فحواه! واستكملت الشركة نشاطاتها الآخذة بالتوسع.

أساليب السطو نفسها أينما كان

لدى «إلدورادو» 4 مشاريع منجمية في اليونان، 3 منها في منطقة «هاكيديكي»، مسقط رأس الفيلسوف أرسطو، في شمال البلاد. تعود القصة إلى عام 1996، عندما اشترت شركة كندية أخرى حقوق التعدين في هذه المنطقة، تحديداً في غابة «السكوريز» التاريخية. أوقفت هذه الشركة أعمالها في عام 2003 مخلفةً أضراراً بيئية وضرائب غير مدفوعة ومستحقات عالقة لعمّالها، فأقدمت حكومة الحركة الاشتراكية اليونانية (باسوك) على شراء الحقل المنجمي بـ11 مليون يورو حينها، وأممت مخلفات الشركة وسددت المستحقات المترتبة عليها من الأموال العامة. وكلّفت أحد وزرائها إيجاد مشترٍ جديد للمناجم.

للصورة المكبرة أنقر هنا


وقع الاختيار على كونسورتيوم شكّله أحد رجال الأعمال اليونانيين الأثرياء، يدعى جورجيوس بابولاس، وهو من أبرز أوليغارشية اليونان، مع فرانك تيميس، وهو بليونير مثير للجدل، متهم بالغش وممنوع من التعامل في أسواق الأسهم في بريطانيا وأوستراليا. سمّيا هذا الكونسورتيم باسم «هيلاس غولد»، واشتريا المناجم بـ11 مليون يورو. لم تحقق الدولة اليونانية أي ربح من خلال إعادة البيع هذه. علاوة على ذلك، وافقت على حماية «هيلاس غولد» من أي مسؤولية بيئية ناجمة عن أضرار الشركة السابقة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن مساءلة «هيلاس غولد» عن أي تلوث سببته الشركة القديمة، حتى ولو أن ممارسات الشركة الجديدة زادته وأمعنت فيه.
بعد أسابيع من موافقة البرلمان اليوناني على الصفقة، باع بابولاس وشريكه 51% من أسهمهم إلى شركة التعدين الكندية، «الدورادو»، محققين أرباحاً بقيمة 25 مليون دولار أميركي. باع تيميس حصته أيضاً إلى «إلدورادو» بقيمة 100 مليون دولار، تلاه بابولاس ببيع أسهمه الباقية بقيمة 178 مليون دولار، واشترى هذا الأخير حصة في الشركة الكندية الجديدة.
باختصار، باعت الحكومة المناجم بسعر الشراء نفسه، في المقابل، حقق المشترون مئات الملايين من الدولارات من إعادة بيعها في غضون أشهر قليلة.

قمع مقاومة السكان

تستخرج «إلدورادو» الذهب والفضة والنحاس من هذه المناجم، وتستثمرها في مضاربات أسواق السلع الأولية عالمياً. في المقابل، تنازع القطاعات الصناعية اليونانية الأخرى، في ظلّ السياسات التقشفية المتبعة منذ اندلاع أزمة الديون السيادية في 2009. وتعمّقت هذه الأزمة منذ 2015، بعد الاتفاق الذي عقدته حكومة «سيريزا» اليسارية مع ما يسمى الترويكا (المفوضية الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي).
تستخرج «إلدورادو» الذهب والفضة والنحاس من المناجم وتستثمرها في مضاربات أسواق السلع الأولية


كما في كل النشاطات الاستخراجية والتنقيبية، نجم عن أعمال الشركة الكثير من الأضرار البيئية، الصحية والاقتصادية، ومسّت بصميم النسيج المحلّي للمناطق المعنية، فجرى تلويث مياه الشرب، والإضرار بالتنوع البيولوجي، وتدمير الشواطئ المجاورة بشكل كبير، فضلاً عن تلوث الهواء بمركَّبات الكبريت. كذلك تضررت القطاعات الاقتصادية الرئيسية في المنطقة، كصناعة الغذاء المحلية والسياحة وصيد الأسماك.
هذه التجاوزات، دفعت السكان إلى تشكيل حركة مقاومة مناهضة لأنشطة التعدين، قابلتها السلطة والشركة الخاصة على حدّ سواء بممارسات قمعية. تفيد التقارير بأن «إلدورادو» تعاقدت مع شركة «بلاك واتر» الأمنية (التي تعاقدت معها الحكومة الأميركية لإرسال المرتزقة إلى العراق في ظل الاحتلال)، فيما أرسلت الحكومة المزيد من شرطة مكافحة الشغب، وعمدت إلى محاصرة موقع التنقيب بالسياج الكهربائي لحمايته من الأهالي. باتت الشرطة اليونانية تلعب دور قوة الأمن الخاص للشركة. ومع ازدياد حدّة المواجهة مع السكان، بُلِّغ عن حالات عديدة أُحرِقَت فيها منازل ومحالّ تعود لأشخاص معروفين بمناهضتهم للأعمال المنجمية في المنطقة. استمرت هذه الممارسات لسنوات عدّة، واستمرت في عهد الحكومة الحالية، التي تسلمت السلطة في 2015.

«سيريزا» المخيبة للآمال

وصول حركة «سيريزا» اليسارية إلى الحكم عام 2015، لم يشفع للأهالي، على الرغم من أن «سيريزا» بنت حملتها الانتخابية على مناهضة سياسة التقشف وسطوة الترويكا والدائنين على الاقتصاد اليوناني، ووعدت بوضع حدّ لانتهاكات شركات التعدين وضررها بالبيئة. ولكن، كما تابع العالم كله في 2015، خسرت سيريزا كباشها مع الترويكا، وأذعنت لتنفيذ برنامج تقشفي أعمق من ذلك الذي أقدمت عليه حكومات يمينية ووسطية منذ بدء أزمة الديون اليونانية.
في عام 2009، خفضت وكالات التصنيف الائتماني وضع اليونان إلى «عالي المخاطر»، أي إن البلد على شفير التعثر في تسديد ديونه. على إثر ذلك، وقّعت اليونان على خطة إنقاذية تقدّم فيها الترويكا ديوناً بقيمة 146 مليار دولار على ثلاث سنوات، في مقابل التزام اليونان إجراءات تقشفية قاسية. في عام 2012 وُقِّع على خطة إنقاذية ثانية تنتهي بحلول عام 2015. كان لهذه السياسات آثار اجتماعية كارثية، ولا سيما على صعيد ارتفاع البطالة، وانخفاض الأجور والحد الأدنى للأجور، وتسريح آلاف العمال من القطاعين الخاص والعام، وخصخصة العديد من الشركات الحكومية وإلغاء أكثر من 75 هيئة رسمية، وخفض المعاشات التقاعدية، وغيرها.
بنى حزب «سيريزا» اليساري الراديكالي صعوده على النقمة الشعبية إزاء التقشف، وحملت حملته الانتخابية وعداً للناس بإنهاء هذه السياسات والتحرر من سطوة الترويكا والدائنين. وبالفعل، اكتسح «سيريزا» الانتخابات ووصل إلى السلطة، ودخل في مفاوضات مع الترويكا من أجل خطة إنقاذ ثالثة، أكثر عمقاً وجذريةً من الاتفاقين السابقين. ومن أجل تعزيز قوته التفاوضية بوجه الترويكا والتخفيف من قسوة الاتفاق المقترح، وضع «سيريزا» الخطة الإنقاذية المقترحة أمام الاستفتاء الشعبي. صوّت الناس برفض الخطة المقترحة، ولكن حزب «سيريزا» أذعن أمام تشدد الترويكا، ووقّع على تنفيذ الخطة خلافاً لنتائج الاستفتاء، بل إن رئيس الحكومة، تسيبراس، «طهّر» حكومته وحزبه من العناصر المعترضة على هذه الخطوة.

اليسار الصديق للأعمال

منذ 2015، أثبتت حكومة «سيريزا» إخلاصها لسياسات التقشف وشروط الدائنين والترويكا ومطالب رأس المال الأجنبي. وكان ذلك جليّاً عبر رضوخها لشركة «إلدورادو»، متذرّعة بتحرّك عمّال المناجم الخائفين على وظائفهم في حال تنفيذ الشركة تهديدها بالانسحاب، معلنين بذلك أن عملهم أهم من صحّتهم، في ظل فشل «سيريزا» بتأمين الوظائف الجديدة.
في الواقع، أراد تسيبراس إظهار أن اليونان، حتى في ظل حكومة يسارية، سيبقى بلداً صديقاً للأعمال ومرحباً بالرساميل الأجنبية وضامناً لمخاطرها وأرباحها. فالاستجابة لمطالب «إلدورادو» أعطى إشارة للشركات بأن مصالحها في اليونان لن تُمسّ، وأن هناك منافع جمّة ستوفرها من شراء التجهيزات العامة والامتيازات التي تعرضها الحكومة للبيع. وكي تبدو الإشارة «صادقة جداً»، ذهبت الحكومة والبرلمان أبعد من تسخير القوى الأمنية الحكومية لحماية المناجم التي تستغلها الشركة، فعُدِّل قانون الإضراب من أجل وضع حدّ للتحركات النقابية المتزايدة. كذلك، تُسَنّ حالياً تشريعات تفرض عقوبات قاسية على كل من يقاوم عمليات الاستحواذ التي تقوم بها المصارف. فضمن الاتفاق الإنقاذي الثالث، على الحكومة توفير التسهيلات كي تتمكن المصارف من خفض قيمة القروض المتعثرة، وذلك عبر عمليات استحواذ واسعة على ممتلكات المدينين العاجزين عن تسديد ديونهم أو تسديد الفوائد المتراكمة، ولا سيما مالكو المساكن، ما أشعل حركة مقاومة لمنع المصارف من الاستيلاء على الأملاك.
عمّقت حكومة «سيريزا» اليسارية سياسات التقشف، فخصخصت 14 مطاراً إقليمياً، وباعت أكبر مرفأ في اليونان، وهي في طور بيع ثاني أكبر مرفأ. أدخلت ضرائب جديدة تطاول الفئات الفقيرة والمتوسطة، وألغت بعض التنزيلات الضريبية لذوي الدخل المحدود، وتقوم بخفض المعاشات التقاعدية بنسبة 19% إضافية، بعد أن كانت قد خفضتها 40 بالمئة منذ بداية الأزمة اليونانية.
في الحصيلة، شكّلت السياسات المتّبعة (التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية) وصفة سحرية لتحقيق مصالح رأس المال على حساب مصالح المجتمع اليوناني: خصخة واسعة بأسعار متدنية؛ قوى أمنية ممولة من دافعي الضرائب مسخّرة لحماية الرساميل الخاصة، ولا سيما الأجنبية؛ مصلحة شركات التعدين والتنقيب تسمو على مصلحة السكان المحليين؛ أجور منخفضة وتقديمات اجتماعية زهيدة؛ ضرائب لا تطاول المستثمرين؛ وإمكانات العمّال على الإضراب باتت مقيّدة قانوناً.