موقف الحكومة الفرنسية في باريس 4 يثير الريبة، ففي الوقت الذي تتراجع فيه عن إبرام المزيد من عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص عندها، بسبب كلفتها الباهظة وعيوبها الكثيرة، تندفع في دعم توجهات الحكومة اللبنانية وتشجيعها على الذهاب في هذا الاتجاه لتنفيذ البرنامج الاستثماري في البنية التحتية. في ما يأتي تحقيق نشرته صحيفة Le Monde الفرنسية، في 12/3/2018، أي عشية انعقاد باريس 4، يكشف الخيبات التي مُنيت بها تجربة الشراكة هناك.انتهت الشراكات بين القطاعين العام والخاص من أجل بناء الـسجون المرتقبة والمحاكم، في فرنسا. أكدت ذلك وزيرة العدل يوم الجمعة في 9 آذار. استعادت نيكول بيلوبي بكلماتها الانتقادات التي صاغها أسلافها الاشتراكيون، وتلك التي تضمنها تقرير ديوان المحاسبة، في كانون الأول الماضي، حول عقارات العدلية، فدعت إلى «وضع حدّ للهروب إلى الأمام»، الذي تجسده الشراكة بين القطاعين العام والخاص، «بسبب كلفتها وعدم استدامتها المالية». وبذلك لن تتعدى حياة هذه الشراكة 15 عاماً في فرنسا، ولكن لن ينتهي العقد الأخير الموقع من الدولة، الخاص بقصر عدل باريس، قبل عام 2044.
استوردَت الشراكة بين القطاعين العام والخاص إلى فرنسا من المملكة المتحدة، منذ سنة 2000، وهي تتيح لمجتمع محلّي، وزارة، أن تسلّم لمشغِّل خاص ليس فقط تصميم، بناء وتمويل بناء معيّن أو مرفق عام، ولكن أيضاً استغلاله لمدّة طويلة تراوح بين 25 و30 عاماً. يدفع المستخدم العام بدلاً أو إيجاراً مقابل تلقيه لهذه السلعة خلال مدّة هذا الامتياز الهائل، ويسترجع الملكية في نهاية المطاف. يتكوّن المشغل الخاص عموماً من كونسورتيوم مشكّل من شركة تعمل في مجال البناء والأشغال العامّة من أجل التصميم والبناء، ومستغِلّين لتقديم خدمات متنوعة كالتدفئة، التنظيف، الفندقية، الأمن، ومن مموّلين على شكل صندوق استثمار أو مصرف.
حتى يومنا هذا، أُبرِم 250 عقد شراكة بالمعنى القانوني الصارم. منذ عام 2002، برزت أربع وزارات سبّاقة في استخدام الصيغ القريبة من الشراكة: الدفاع، الداخلية والصحة من أجل إنشاء أو تحديث ثكنات، مراكز شرطة، مفوضيات، مستشفيات، بالإضافة إلى وزارة العدل التي أبرمت عقوداً تخص 14 سجناً وقصرين للعدل في كاين وباريس.
كان نيكولا ساركوزي من أكثر المتحمسين للترويج للشراكة بين القطاعين العام والخاص، كوزير مالية وبعدها كرئيس للجمهورية بين 2007 و2012، فأطلق مشاريع هائلة: مركز الأركان العسكرية الذي وُصف بـ«البنتاغون الفرنسية» في بالار في الدوار الخامس لباريس؛ قصر العدل الجديد في باريس، باب كليشي في الدوار الـ17، الذي سيفتح أبوابه في 17 نيسان؛ ثلاثة خطوط سكك للقطار السريع بين تور وبردو وبين مانس ورين.

عقود باهظة الثمن
لجأت المجتمعات المحلية أيضاً إلى الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ولا سيما في مجال الملاعب، من أجل كأس أوروبا لكرة القدم عام 2016، إذ استعانت مدينة ليل بشركة إيفاج، ومدينة بوردو بشركة فيات وفينسي، ومدينة نيس بفينسي، ومارسيليا ببويغ، لإعادة هيكلة ملعب الفيلودروم الشهير. وفي كل مرّة تتقاسم شركات البناء والأشغال العامة نفسها هذه العروض الضخمة: إيفاج، فينسي، بويغ...
فضلاً عن الفاعلين في القطاع الخاص والسياسيين، أُصيبت الوظيفة العامة العليا بعدوى الحماسة المفرطة لهذا التدبير القضائي والمالي، وعدّته وسيلة عصرية لإدارة النظام العام من منظار «الكلفة الكاملة»، أي دمج الحاجات المستقبلية للصيانة والاستغلال، التي تشكل نقطة ضعف للإدارات التي تميل نحو إهمالها أو تأجيلها من سنة إلى أخرى. استند هؤلاء التكنوقراط إلى أوساط الأعمال، مكاتب المحاماة، شركات التدقيق والاستشاريين الماليين... وهم جميعهم أكثر خبرة من الإدارة، ويتقاضون مبالغ خيالية، وأصبحوا «لوبي» قوياً ينتمي إليه العديد من الأفراد الذين يتنقلون دائماً من الخاص إلى العام أو بالعكس.
دُفعت 7.8 ملايين يورو قبل توقيع العقد حول قصر العدل في كاين، بينما كلفت عملية مشابهة في بورغ ــ أن ــ بريس، 900 ألف يورو فقط


موضة الشراكة بين القطاعين العام والخاص لها أسبابها المتعلقة بميزانياتها المنخفضة: فالوزارات لا تدفع إلّا عند التسليم، فتتخطى بذلك القيود المفروضة في ميزانياتها، وفي الدولة، وتتخطى أيضاً القواعد الأوروبية ومعايير اتفاقية ماستريخت. فحتى عام 2010، لم تكن أوروبا ترى أن هذه الالتزامات الطويلة الأمد تزيد من مديونية الدول. لم يعد الأمر كذلك اليوم، ما يشكل سبباً إضافياً من أجل التخلّي عن الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
لقد تبيّن أن عقود الشراكة باهظة الكلفة عند جميع مراحل الاستخدام، فضلاً عن أن إدارتها صعبة. فتكاليف الدراسات ووضع العقود المعقدة عالية، إذ لديها من الكبرياء لتدّعي أنها تخطط لكل شيء مسبقاً، ما أصبح في أغلب الأحيان مصدر تصلّب وليس توفيراً. على سبيل المثال، دُفع 7.8 ملايين يورو قبل توقيع العقد حول قصر العدل في كاين، بينما كلفت عملية مشابهة، في مرحلة التصميم والإنجاز، في بورغ - أن - بريس، 900 ألف يورو فقط.

أثر التكاليف المالية
يكمن الضرر الأكبر أيضاً في أثر التكاليف المالية: فكان يمكن الدولة أن تستفيد من فوائد أدنى، مثلاً 1.86% في 2012، لو أنها اقترضت مباشرة من الأسواق. ولكن المشغّل الخاص لعقد الشراكة، الذي لجأت إليه الدولة، اقترض بفائدة 5.8% في العام نفسه لبناء سجن «ريوم»، وبـ5.9% من أجل محكمة كاين، وشكلت كلفة زائدة تراكمت على مدى 25 عاماً، فتضخّمت وارتفع الإيجار بنسبة 14%. وبفعل تعمّق الهوة بين فائدة اقتراض الدولة والقطاع الخاص منذ عام 2012، تواجه المجتمعات المحلية صعوبات كبيرة في إعادة التفاوض بشأن ديونها. تقرّ ماري ــ لوس بوسيتون، مديرة الوكالة العامة للعقارات القضائية، «بأن أسعار القروض المصرفية الخاصة بالغة الارتفاع اليوم، وعدد قليل من المصارف مرشح لمشاريع شراكة بين القطاع العام والخاص. وهذه أحد الأسباب التي دفعتنا إلى عدم إبرام أيّ عقود شراكة منذ عام 2014».
يكون الحوار مع المستغِّل فظّاً أحياناً خلال مدة العقد، وخصوصاً حين يكون الموضوع إجراء تعديلات أو أعمال إضافية، بفعل موقع القوة الذي يتمتع به المشغّل الذي يميل إلى وضع تسعيرات مرتفعة. في صيف 2016، طلب وزير العدل من شركة بويغ أن تقدم كلفة تقديرية لتكييف المباني المستقبلية لقصر عدل باريس، كي يتمكن من استضافة قسم مسؤول عن تسوية النزاعات المتعلقة بالضمان الاجتماعي. قدّمت بويغ كلفة تقديرية باهظة بقيمة 36 مليون يورو، فرفض الوزير، وقرر أن يقوم بهذه الأعمال بعد تسليم المبنى. بعد المفاوضات، هبطت الكلفة الى 25 مليون يورو.
أما الأكثر إثارة للدهشة في مشاريع الشراكة، فهو شبه فقدان سيطرة الإدارة على معداتها منذ مرحلة التصميم: «لم نتمكن دائماً من اختيار المهندس المعماري، واضطررنا إلى تضمين إمكانية الوصول إلى مخططات المباني في العقد»، تستذكر ماري - لوس بوسيتون. ففي شهادته حول ورشة قصر العدل في باريس، يقول ستيفانو جيورجيو ــ مارانو، المهندس المعماري لوكالة رينزو بيانو، إنه «كان على كل تعديل تطلبه الإدارة العامة أن يمرّ ببويغ التي لم تكن توافق عليه الّا بعد مناقشات طويلة».

ترخيص بناء ملغى
حالياً، تجد جامعة باريس 7 نفسها غارقة في فوضى قانونية حول عقد الشراكة الذي وقعته وزيرة التربية (حينها)، فاليري بيكريس، مع شركة فينسي، في 23 تموز 2009. فهناك مبنيان لم يطابقا معايير السلامة الخاصة بالمنشآت التي تستقبل العموم، وذلك بفعل رغبة شركة فينسي في التوفير بهذا المجال. بالتالي، ألغى مجلس شورى الدولة الفرنسي، في 19 كانون الثاني 2018، ترخيص البناء الذي حصلت عليه فينسي، كذلك إذن بافتتاح المبنى. لكن المتضرر الأكبر هو الجامعة، إذ بعد 9 سنوات من توقيع العقد، فرضت العيوب استخداماً جزئياً للمبنى، إذ إنّ ما يقارب 20% من صالات الاجتماعات غير صالحة. «ما يثير الدهشة، أن الجامعة لا تدافع عن نفسها، ولا تطالب بغرامات، ومع ذلك عليها أن تسدد 400 ألف يورو تكاليف محامٍ»، يقول ميشال حبيب، مدير معهد الدراسات المعلوماتية الأساسية، والأستاذ في جامعة باريس 7 والعضو في هيئتها الإدارية.
فيما تتجه الدولة إلى التخلي عن الشراكة، تظهر المجتمعات المحلية كأنها أكثر رضاً. فوقع المجلس العام لسين ــ سانت ــ دونيس عقداً مع فيات في أيلول 2016، لبناء أو إعادة بناء 3 ثانويات. إنه العقد الرابع من نوعه الموقع منذ 2012 من قبل المقاطعة. ومن أجل معالجة الوضع السيئ لـ34 مبنىً مدرسياً، اعتمدت مدينة مارسيليا في تشرين الأول 2017 مبدأ تجديدها عبر عقد شراكة عملاق بقيمة مليار يورو، ما أثار غضب الحرفيين المحليين والمؤسسات الصغيرة في قطاع البناء.