التفريع القسري للجامعة اللبنانية بفعل الحرب، والذي كرسته المراسيم لاحقا، وأتبعته بالتشعيب السياسي لفروع بعض الكليات، كان أول وأهم عوامل ضرب الحركة الطلابية والعمل النقابي، وبغيابهما، أسس للزبائنية والطائفية والإستزلام في الجامعة وسمح للأحزاب بالتدخل والسيطرة لاحقا على كل مفصل من مفاصل القرار فيها، بدءا من تعيين الرئيس والعمداء والمديرين، مرورا بإدخال الأساتذة في التعاقد والتفرغ وصولا إلى تعيين المدربين والموظفين. كما ساهم في إضعاف المستوى العلمي والأكاديمي والبحثي للجامعة (فروق في المستوى بين الفروع على الصعيد الأكاديمي والبحثي)، ورسخ الفساد الإداري والمالي فيها.لا جديد في ما ورد، فالقاصي والداني يعلمه، إنما أورده للتذكير بأن التفريع هو على رأس الأسباب التي أوصلت الجامعة إلى ما وصلت إليه. من هنا، في ضوء ما ورد وفي ضوء ما تعاني منه الفروع والشعب في الأطراف من إهمال في الأبنية المتصدعة وترد في وضع المختبرات التعليمية (نقص في التجهيزات مقارنة بالفروع المركزية) وشبه غياب للمختبرات البحثية، كنت ولا أزال أنادي بإعادة هيكلة الجامعة، أي إلغاء الشعب والحد من الفروع واستبدالها بمجمعات جامعية كاملة تضم السكن الطلابي والمراكز البحثية والمكتبات والمطاعم و... ماذا يعني أن يكون هناك فرعان للعلوم والعلوم الإجتماعية والفنون وغيرها من الكليات في بيروت؟ فكما يحوي مجمع الحدث الكليات ذات الطابع العلمي والتطبيقي يمكن مجمع الفنار أن يحوي الكليات ذات الطابع الإنساني وبالتالي يتم إلغاء الفروع الأولى والثانية ودمجها في فروع واحدة. إن الأزمة الإقتصادية الراهنة، وتضييق الخناق على الجامعة عبر عصر موازنتها إلى الحد الأقصى، بحيث لم تعد تكفي لتسيير المجمعات الجامعية ولدفع أجور الأبنية المستأجرة منها، ومن حيث أنها أرغمت على اعتماد التعليم عن بعد هذا العام لأسباب عدة ، أبرزها عدم القدرة على تغطية الأكلاف التشغيلية، وعدم تمكن الأساتذة والموظفين والطلاب من الحضور إلى الكليات، وهجرة العديد من أساتذتها (في الملاك ومتفرغين ومتعاقدين) وموظفيها، يجب أن يدفع أهل الجامعة وإدارتها بالتفكير جديا بإعادة لملمة الجامعة وتوحيدها. "لملمة" الجامعة في مجمعات سوف يكون له كذلك انعكاساته على إستعادة الدور الوطني للجامعة في أن تكون ساحة نقاش وتفاعل بين الطلاب من كل الأطياف الفكرية والسياسية والثقافية والدينية، ومن مختلف المناطق والطبقات الإجتماعية، بعيدا عن العصبيات والطائفية.
لتكن الأزمة إذا فرصتنا في توحيد الجامعة وإعادة بلورة دورها ووظيفتها، وفرصتنا في "نفضة" مناهجها وبرامجها (العلمية والإنسانية) التي تكرس التبعية ولا تسمح بتكوين منطق علمي سليم ولا تحث على الإبتكار والإبداع، على الرغم مما يتمتع به طلابها وأساتذتها من طاقات فردية جبارة.
هذا الكلام يأتي خارج سرب الطروحات السياسية التي تشرع للتفريع بحجة الإنماء المتوازن الواهية، والتي تخفي في الواقع التحاصص المتوازن، وكذلك أصوات بعض الأساتذة التي تنادي باللامركزية المرفوضة. ما موقف إدارة الجامعة من قرار مجلس الوزراء الأخير بتكريس شعبة راشيا في كلية الصحة كفرع ؟ ما المسوغ العلمي لقرار كهذا ؟ هل تم اقتراحه من إدارة الجامعة (كون مجلسها معطلا) ومتى؟ أم أن مجلس الوزراء اتخذ هذا القرار نيابة عنا ؟ نعم عنا، وأتكلم بالنحن لأننا يجب أن نكون شركاء في إدارة الجامعة، وهذا ما كرسته نضالات من سبقونا وصادرته أحزاب السلطة عبر التحاصص في ممثلي الأساتذة كما الإدارات، وذلك برضى الأساتذة انفسهم، فهم من انتخبوا ممثليهم في مجلس الجامعة.
طرح توحيد الجامعة عبر إعادة هيكلتها يأتي أيضا خارج سرب طروحات بعض الأساتذة بالتفريع بحجة حق الطلاب في الأطراف بالتعلم، وهو حق مشروع. إلا أن تكلفة تأمين النقل والسكن لهؤلاء الطلاب أخف بكثير على الجامعة من تكلفة الأبنية المستأجرة وتأمين المعدات المخبرية وغيرها من المستلزمات والمعدات التشغيلية، عدا الدخول في عدد الأساتذة والمدربين والموظفين الذين غادروا الجامعة، ومن دون التطرق إلى وضع الأساتذة المتعاقدين الذين يشكلون النسبة الأكبر من أساتذتها. كما أن طرحا كهذا لا يلتفت إلى ضرورة مغادرة الطلاب قراهم ومناطقهم ليتلاقوا مع الطلاب كافة في إطار الجامعة. ما الفرق إذا بين الجامعة ومدرسة الحي أو البلدة؟
في الوقت الذي تطالب به الجامعة اللبنانية بتسديد أجور الأبنية الجامعية المستأجرة والمستحق دفعها يستمر التفريع. وفي الوقت الذي يغادرها أساتذتها ومدربوها وموظفوها بفعل الأزمة الإقتصادية وحتى طلابها (قرار زيادة رسوم التسجيل يلوح في الأفق وما صدر عن لسان رئيس الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين كان يتم تداوله في أروقة إدارة الجامعة وبين الأساتذة)، يطلب إلى الأساتذة وبالتحديد المتعاقدين والأساتذة الذين سافروا بحسم أمرهم في ما خص البقاء في الجامعة أو مغادرتها، تمهيدا لفتح باب التعاقد؛ فحسب زعم الإدارات، طلبات تعاقد الأساتذة "متلتلة" وكذلك طلبات التوظيف. والسؤال الذي يطرح نفسه هو من سيلهث وراء التعاقد مع الجامعة اللبنانية، ومعاناة الزملاء المتعاقدين منذ عشرات السنين لا زالت ماثلة أمامهم ؟ أم من سيرغب بالتدريب أو بالوظيفة في الجامعة مع علمه بمعاناة المدربين والموظفين ؟ ومن سيرتضي أن يدفع من ماله الخاص لأجل أن يصل إلى الجامعة ويعمل من دون أجر؟ المسألة واضحة، من سوف يرتضي ذلك هو الذي لن يعمل، ولن يحضر إلى الجامعة لعلمه بصعوبة أن يكون التعليم حضوريا في العام المقبل. إذا هي صفقة تعاقد جديدة تلوح في الأفق، ولسوف تحرم الجامعة من كفاءات وطاقات وتأخذ بها إلى الخصخصة، في ما لو خسرت الجامعة من أساتذتها الأكفاء المتفرغين وفي الملاك، بفعل تهجيرهم القسري منها، وفي ما لو تم استبدالهم بأساتدة متعاقدين جدد لا يحملون هم الجامعة. فالتعليم الحضوري مرهون بمساعدة البنك الدولي الذي تفاوضه إدارة الجامعة من دون معرفتنا لسقف التفاوض، وما هي الشروط التي سيفرضها علينا مقابل موافقته على مساعدة الجامعة؟ ومن دون أن نعلم ماذا نقبل وماذا نرفض، فممثلو الأساتذة منشغلون "بتعقيب المعاملات"، وتبليغ الأساتذة بمواعيد دفع رواتبهم ومستحقاتهم ! والتعليم الحضوري مرهون أيضا بمساعدة البلديات في تسديد أجور الأبنية ومساعدة الجمعيات في تأمين الطاقة الشمسية (نموذج كلية الحقوق - الفرع الثاني، وكلية الإعلام - الفرع الأول) من أجل تشغيل الكليات والمجمعات والمختبرات و... كأنه لا ينقص الجامعة في هذه المرحلة العصيبة سوى أن تصبح رهينة البلديات والجمعيات (وربما السفارات) كما هي رهينة الأحزاب. فمن يمول يصبح شريكا في الإدارة والتوظيف والتنفيعات، وهذا يفتح بابا جديدا للتوظيف الزبائني ويشرع الجامعة على فساد جديد يضاف إلى ما فيها من فساد مالي وإداري. وأخطر ما في هذه الحلول أن تتدبر كل كلية أمرها محليا فتطبق اللامركزية من حيث تعلم أو لا تعلم، وهي ما بدأت خيوطها تتكشف مع خرق التوقف القسري الذي دعت إليه رابطة الأساتذة المتفرغين بحيث تم تعطيل هذا القرار في العديد من الكليات بحجة خصوصية كل كلية من حيث المشاكل والإحتياجات أو من حيث توفر مستلزمات الإستمرار والقدرة على إجراء الإمتحانات.
وبناء عليه، هذه فرصتنا لتوحيد الجامعة وإعادة النظر في هيكليتها، وفرصتنا لوضع برامج تتناسب والدور الذي يجب أن تضطلع به الجامعة في المرحلة المقبة، وفرصتنا لوقف التوظيف العشوائي ومعرفة من هو مستعد فعلا للتضحية في سبيل الجامعة وطلابها. فحذار حذار من عدم استغلالها وأخذ الجامعة إلى الهلاك عبر سوقها إلى اللامركزية والخصخصة.
انسرت: صفقة تعاقد تلوح خلف قرار العودة إلى الجامعة

* أستاذة في كلية العلوم.