أيّة انتخابات على مثل هذا المستوى يفترض أن تتصدر بلا منازع الاهتمامات العامة بقدر ما يمثله المنصب الرئاسي في بلد مثل مصر من تأثير عميق على حياة كل مواطن بالخيارات التي يتبناها والسياسات التي ينتهجها والمصالح التي يعبّر عنها. بقوة الحقيقة لا توجد مثل هذه الاهتمامات العامة في الانتخابات التي تبدأ غداً في الخارج. عندما يغيب التنافس في صناديق الاقتراع تفقد الانتخابات روحها، فكل شيء مقرر سلفاً.باستثناء لافتات الطرق والميادين وبعض المؤتمرات التي تؤيد وتبايع الرئيس الحالي والدعايات التي تحرض المواطنين على الذهاب إلى صناديق الاقتراع تكاد لا تشعر أن هناك انتخابات. كان مثيراً ما هو منسوب للمنافس الافتراضي من تصريحات قال فيها إنه كان يعتقد أن الانتخابات في أبريل حتى قرأ في الصحف أنها في مارس! إذا كان لا يعرف، أو لا يهتم، بمواعيد الانتخابات فإن أيّ كلام عن التنافس يفقد صلته بالواقع ويخاصم العقل. ما يحدث ـ بالضبط ـ استفتاء على رجل واحد. هناك فارق بين الانتخابات المفتوحة والانتخابات المغلقة.
الأولي ـ فعل تنافس بين برامج ورجال وفق قواعد منضبطة تضمن احترام كل صوت في صناديق الاقتراع. والثانية ـ فعل تفويض بقوة الدولة وأجهزتها والناخبون موضوع حشد حتى يضفي عليه شرعية القبول العام.
منذ إلغاء الاستفتاء على رجل واحد لتولي المنصب الرئاسي شهدت مصر ثلاثة انتخابات، لكل منها قصة وتداعيات.
في عام ٢٠٠٥ بدت الانتخابات أقرب إلى الاستفتاء بمسحة تنافس. لم يوفر ذلك القدر من التنافس المحكوم بقواعد الدولة أية شرعية على حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. كانت انتخابات ٢٠١٢ أول اختراق حقيقي لقواعد اللعبة القديمة، وأول مباراة مفتوحة بين رجال وبرامج. أجهضت التجربة بتصور الجماعة، التي صعدت برجلها إلى قصر «الاتحادية»، أن ذلك يخولها «أخونة الدولة» واستبعاد القوى المدنية وإنكار الوسائل الديمقراطية، كأنها تستخدم مرة واحدة كـ«أوراق الكالينكس». ثم جاءت انتخابات ٢٠١٤ في ظروف ما بعد «٣٠ يونيو» حيث كان الرصاص يدوي في المكان وطلب الأمن يتصدر الأولويات. في ذلك الوقت اكتسب وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي شعبية استثنائية لا يمكن إنكارها وبدا أمام قطاعات واسعة أملاً في المستقبل. كان ترشحه للرئاسة مسألة شبه إجبارية بقوة تلك الشعبية. أي كلام آخر فهو افتراضي لا صلة له بما كان جارياً من رهانات انكسرت في تجربة الحكم. كان من بين تلك الرهانات التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة وفق التزامات دستورية تمنع أي احتمال لعودة مخاوف الدولة الدينية، أو أشباح الدولة البوليسية.
بعد أربع سنوات من تلك التجربة، بأسباب صعودها وتراجع شعبيتها، تحتاج مصر إلى مراجعة حقيقية وجادة على قدر كبير من الشفافية والمصارحة.
ماذا حدث؟ ولماذا؟ أين كانت الأخطاء الرئيسية؟ ومن يتحمل مسؤوليتها؟ ما حدود الإنجاز بلا مبالغة أو تهوين؟ وهل هناك فرصة للتصحيح والتصويب بالفترة الرئاسية الثانية في السياسات والأولويات؟ بطبيعة الأمور بين فترة رئاسية وأخرى المراجعة مسألة ضرورية.
للمراجعة تساؤلات تمتد من شواغل المواطنين وهمومهم اليومية وأولويات السياسات إلى الأزمات الوجودية كالحرب على الإرهاب واحتمال خفض نسبة مصر في مياه النيل بعد ملء سد «النهضة» الأثيوبي والقدرة على إنتاج الغذاء لمواطنيها إلى مصائر الإقليم المشتعل بالنار وطبيعة العلاقات مع إسرائيل.
تحتاج مصر إلى مراجعة حقيقية وجادة على قدر كبير من المصارحة


كان يفترض أن تكون تلك التساؤلات موضوع التنافس الانتخابي، لكنها اختفت مع غياب أي تنافس وإغلاق المجال العام أمام أي تنوع أو اجتهاد.
الانتخابات ـ بذاتها ـ ليست قضية زائدة عن الحاجة. هي ـ أولاً ـ فرصة لتجديد الشرعية الدستورية وضخ دماء فيها.
وهي ـ ثانياً ـ فرصة للحوار العام وفتح شرايين المجتمع أمام خيارات وبدائل يقرّر بشأنها ما يشاء. وهي ـ ثالثاً ـ فرصة لتوسيع مدى القضايا المتوافق عليها واكتشاف مواطن الأخطاء بحرية النقاش. وهي ـ رابعاً ـ فرصة لاكتشاف قيادات تطرح نفسها بإقناع على الرأي العام في مباراة مفتوحة. كل تلك الفرص أهدرت تماماً في الانتخابات المقبلة ـ إذا ما صح وصفها بالانتخابات! بقدر حجم التحديات الماثلة والأزمات الثقيلة فإن التماسك الوطني الواسع قضية وجود.
التماسك له أصول وقواعد حديثة لها احترامها في إدارة الشأن العام، لا دعايات تملأ الفضاء من دون أن تقنع أو تستثير حماسة للذهاب إلى صناديق الاقتراع. أزمة هذه الانتخابات تتلخص قبل أي شيء في إغلاق المجال العام من دون قدرة على تنفس سياسي ـ ولو بأجهزة اصطناعية. هنا يحضر سؤالان بثقل ما هو ماثل لا ما هو مفترض.
الأول ـ ما نسبة المشاركة المتوقعة؟ الإجابة يحددها مدى نزاهة وشفافية العملية الانتخابية.
إذا ما مضت على قواعد منضبطة تمنع أي تدخل بالتزوير، فهذا سوف يكون إنجازاً يحفظ للمصريين بعض ما اكتسبوه بعد ثورة «يناير» في إكساب الانتخابات صدقيتها واحترامها.
وإذا ما جرى تفلّت من بعض جهات الدولة بالعودة إلى الأساليب القديمة فإنها سوف تكون مأساة كبرى تسحب من خزان الشرعية على المفتوح وتسيء لنظام الحكم بقسوة.
المعضلة ـ هنا ـ في التعارض بين مصلحتين، إحداهما تؤكد حاجة نظام الحكم الحالي لإثبات شرعية القبول العام، وهذه ليست مسألة أرقام بقدر ما هي أجواء وتصرفات أمام لجان الاقتراع وداخلها، والأخرى تدعوه إلى السعي بأية طريقة لرفع نسب التصويت بحيث ألا تقل عن أي معدلات سابقة في انتخابات ٢٠١٢ و٢٠١٤ باعتقاد أنها تدخل في صميم شرعيته.
قد يتبدى أن استعادة أجواء الانتخابات السابقة من رقص وأغان أمام اللجان يمكن أن يسد نزيف الشعبية، فالظروف اختلفت والمنافسات اختفت.
أسوأ ما يجري إطلاق الاتهامات، كأن يوصف الامتناع عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع بـ«الخيانة العظمى». هذه تهمة شنيعة تفضي ـ بالضرورة ـ إلى تبادلها مع الذين يطلقونها فيدخل البلد إلى نوع من الانحطاط السياسي ينذر بتقويض أي استقرار أو أمل في المستقبل. والثاني ـ ماذا بعد الانتخابات وتجديد ولاية الرئيس لمرة ثانية وما الصورة التي يمكن أن تكون عليها الانتخابات التالية عام ٢٠٢٢؟
بصياغة أخرى: هل تشجع البيئة السياسية الحالية بكل مظاهرها المزعجة على انتقال سلمي للسلطة وفق قواعد تحترم الإرادة العامة وأصول النزاهة والشفافية؟
المسؤولية الوطنية تقضي بأن يسلم الرئيس الحالي البلد لخلفه وهو في حال أفضل مما كان عليه قبل توليه السلطة.
وذلك يحسب لمصلحة صورته في التاريخ عند الجرد النهائي.
أما إذا ما جرى تعديل الدستور لتمديد فترة رئاسة الجمهورية بغير سقف، أو لمدة ثالثة تدمج في الأحكام الانتقالية، فإن ذلك التطور المحتمل ضد الرئيس قبل غيره، يلغي الشرعية الدستورية باسم طلب التعديل، ويسحب من البلد كله الإنجاز الوحيد لثورتي «يناير» و«يونيو».
* كاتب وصحافي مصري