لماذا الولع به والجزع عليه؟ بعض الأسباب تعود إلى شعبية كرة القدم في مصر، كما غيرها من الدول، لكنها لا تفسر وحدها حالة التوحد مع لاعب، مهما كانت موهبته، عند إصابته في مباراة. وبعض الأسباب يعود إلى أنه قد لا يتمكن من اللحاق بـ«مونديال موسكو» بما يؤثر بالسلب على أداء المنتخب المصري، الذي غاب ٢٨ عاماً عن هذه المشاركات الدولية. لكنها لا تصلح تفسيراً للجزع الذي انتاب قطاعات لا يستهان بها من الرأي العام من مشهد سقوطه مصاباً في كتفه، من دون أن تكون كرة القدم في أولوياتها، وربما لم تشاهد مباراة واحدة في حياتها.بقدر اتساع ظاهرته خارج كل ما هو مألوف ومعتاد، ربما نحتاج إلى دراسات وبحوث ميدانية وموضوعية في علوم النفس والاجتماع والسياسة تنظر في أسبابها العميقة التي جعلت ممكناً القول بأنه «لا يوجد شيء آخر يبهج ويوحّد المصريين غيره».
هذا القول الشائع ينطوي على رسالتين متناقضتين، الأولى إيجابية من زاوية الاعتزاز الوطني بأي إنجاز على مستوى دولي، علمي، أو دبلوماسي، أو أدبي، أو فني، أو رياضي، يحققه مواطنون لديهم الموهبة والكفاءة والقدرة على الإبداع... والثانية سلبية من زاوية الشعور بأنه لا يوجد شيء آخر يبهج، أو يوحد، أو يعطي أملاً بالمستقبل.
من ناحية موضوعية، لا يصح تحميل محمد صلاح فوق طاقته، أو تسييس ظاهرته خارج طبيعتها الأصلية. فهو في البدء والمنتهى لاعب كرة قدم تمكن من إحراز مكانة متقدمة في اللعبة الأكثر شعبية بموهبته ومثابرته والتزامه بقواعد الاحتراف وتطوير قدراته. ومن ناحية موضوعية أخرى يصعب تجاهل تمدد ظاهرته خارج كل طبيعة مفترضة، أو حدود مفهومة.
قد يقال إنه «قصة نجاح» ملهمة لشاب من أسرة ريفية تلقّى تعليماً متوسطاً أخلص لموهبته وعانى ليصل إلى ما وصل إليه. لم يكن طريقه سهلاً ولا معبّداً، وإن الذين شككوا في قدراته، أو رفضوا انضمامه إلى أنديتهم، اضطروا في النهاية إلى إبداء الندم، أو الاعتذار.
شيء من ذلك تعرض له الدكتور مجدي يعقوب، حين اضطر إلى الهجرة والعمل في بريطانيا بعدما حرم من حقه في التعيين معيداً في كلية الطب بجامعة عين شمس. بموهبته وعلمه وخلقه استطاع أن يحوز مكانته كواحد من أفضل أطباء القلب في العالم، وتشاء الظروف أن يأتي إليه في لندن من عارض تعيينه معيداً لإجراء عملية قلب حساسة لم يأتمن غيره عليها.
مثل هذه القصص تلهم الإعجاب وتعطي أملاً في أن النجاح يظل ممكناً مهما تبدّت المصاعب والعراقيل إذا استوفيت أسبابه وتأكدت جدارته. غير أن نفس القصص تشير إلى مدى الخلل في البيئات العامة وعدم قدرتها على احتضان المواهب وتنميتها وتقديمها للعالم.
صلاح بدأ مشواره في ناد قاهريّ، غير أن فرصته الحقيقية كانت في الأندية الأوروبية. بمقاربة مشابهة، تلقّى العالم الراحل أحمد زويل تعليماً جيداً في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، غير أن مجده العلمي الذي استحق عليه جائزة نوبل في الكيمياء يرجع الفضل الأول فيه إلى «جامعة كالتك» الأميركية، التي وفرت له التفرغ للبحث العلمي بأفضل ما هو ممكن.
لكل شيء قواعده في البحث العلمي، كما في النشاط الرياضي، أو الإبداع الثقافي والأدبي والفني والفكري. إذا غابت البيئات الحاضنة والقواعد التي تضمن سلامة الأداء، فالعشوائية مؤكدة والنتائج وخيمة، كما هي الحال الآن في المنظومة الرياضية.
وقد يقال إن صلاح، بمستوى ما أثبته في الملاعب البريطانية من قدرات استثنائية كواحد من أفضل لاعبي كرة القدم في العالم، أضفى على بلاده قوة ناعمة جديدة، تنفذ وتلهم، بقوة تأثير اللعبة الأكثر شعبية. العالم يعرف الأساطير الرياضية بأكثر ممّا يعرف عن الدول التي ينتسبون إليها.
على شبكة التواصل الاجتماعي، بدأت تروى قصص وحكايات لمصريين استشعروا معاملة مختلفة في دول متباينة في مستويات تقدمها لمجرد انتسابهم إلى البلد الذي جاء منه صلاح. باليقين، فهو لا يقارن من حيث القيمة بقامات أدبية وفكرية من حجم نجيب محفوظ، الذي حصل عن استحقاق على جائزة نوبل للآداب، أو من حيث التأثير بشخصيات تولت مناصب دولية رفيعة مثل الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأمم المتحدة الأسبق، والدكتور محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأسبق، أياً كانت درجة الاتفاق أو الاختلاف على أدوارها ومواقفها، ولا بممثل سينمائي مثل عمر الشريف، والقائمة تطول. غير أنه رغم صغر سنّه، يخاطب عبر لغة كرة القدم مئات ملايين البشر، يعرفونه ويستقصون أخباره ويتأثرون به، أكثر ممّا في طاقة المناصب الدولية أو حركة النشر والقراءة على خريطة العالم، أو حتى على شاشات السينما بكل آلة دعاياتها وصناعة نجومها.
على مدى التاريخ الحديث، قدمت مصر أفضل ما عندها، من فكر وأدب وثقافة وفن وفقه ومدارس في قراءة القرآن الكريم، إلى عالمها العربي وقارتها الأفريقية، ارتكزت على حضارتها القديمة وحاورت حضارات البحر المتوسط، وهذا ما يطلق عليه القوة الناعمة، ليست كلها بل أبرز ما فيها.
في حالة صلاح، المدخل مختلف، عالم كرة القدم، والتأثير أوسع بقوة وسائل العصر، التي تبث المباريات الدولية إلى العالم كله في اللحظة نفسها، بما تولده من مشاعر تتقارب أحيانا. بتلخيص ما، فإنّ جزءاً كبيراً من ظاهرته بِنت عصرها ووسائل اتصالها.
بنظرة أخرى، فقد اكتسب شعبية مماثلة في العالم العربي، لموهبته أولاً ولانتمائه القومي ثانياً. وقد يقال تفسيراً لشمول ظاهرته، لمن ليست لهم عناية بكرة القدم، النموذج الأخلاقي والإنساني الذي يقدمه داخل الملعب وخارجه.
القضية ليست في أعمال الخير التي يتولاها في قريته الفقيرة، فكل اللاعبين الدوليين يقومون بأعمال مماثلة، بقدر ما في التناقض بين ما يفعله وما يفعله غيره. لم يكن مطالباً بأيّ دور اجتماعي من فائض دخله المشروع والمعلن، فهو يحصل عليه من عمل في الخارج وليس من بلده، بينما آخرون يحصلون على أموال تقارب ما يحصل عليه أو تزيد، من الداخل، يدعون، عبر إعلانات فضائية مكثفة، إلى حملات تبرّع لأعمال خير، من دون أن يقدم أغلبهم على أيّ تبرّع.
كذلك لم يعهد عن رجال الأعمال، مع استثناءات معدودة، أيّ أدوار في دعم البحث العلمي، أو ترقية مستوى الذوق العام، أو في أي شيء آخر له صلة بتلبية احتياجات مجتمع يعاني بقسوة.
وقد يقال تفسيراً لتعلق الأجيال الشابة به، على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، إنه يمثل فكرة أكبر من أن تكون مهارة لعبة، أن المستقبل ملكها وهي قادرة عليه وحدها مهما كانت الإحباطات ودواعيها.
أمام ظاهرة محمد صلاح، ما تحتاج إليه مصر أن تستلهم شعار ناديه «ليفربول»: «لن تسير وحدك أبداً».
*كاتب وصحافي مصري