عندما قرّر المصريون التظاهر في عطلة «عيد الشرطة» عام 2011، لم يكن غضبهم من النظام وتصرّفاته فقط، بل من ممارسات جهاز الشرطة. فقد كان المحرك الرئيسي لـ«ثورة 25 يناير» صفحة «خالد سعيد» على «فايسبوك»، وهو الشاب الاسكندري الذي قتلته الشرطة في الإسكندرية، واتهمته بتعاطي الحشيش، على رغم ثبوت وفاته نتيجة التعذيب.صحيح أن سعيد لم يكن الوحيد الذي قُتل بالطريقة نفسها ضمن سياسة السجون السرية والتعذيب المنهجي لدى قيادات «أمن الدولة» («الأمن الوطني» حالياً)، إضافة إلى تكميم أي تحرك سياسي، والقبض على الإسلاميين والمعارضين للنظام وحبسهم، من دون قيود إلى جانب تلفيق الاتهامات، لكن اضطهاد وزارة الداخلية للمواطنين لم يكن سوى جزء من مشهد مورست فيه أقصى الانتهاكات. لذا، كان طبيعياً أن تكون أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز الهدف الأول للثوار الذين واجهوا قنابل الغاز والرصاص، ما أدى إلى استشهاد ألف على الأقل وإصابة الآلاف.
خلال الثورة، بدا أن دخول الأمن لم يأتِ في مصلحة نظام حسني مبارك، الذي حمته القبضة الأمنية على مدار نحو 30 عاماً، بل تسبّب في تفاقم الموقف، وانتقال شعار التظاهرات إلى استهداف «الداخلية» بجانب الرئاسة، حتى بعد سقوط جهاز الشرطة بالكامل، وتوقيف وزيرها حبيب العادلي للتحقيق في الانتهاكات التي حدثت في عهده. وعملياً كان تدخل العقل الأمني لتدبير «موقعة الجمل» ضد الثوار في ميدان التحرير القشة التي قصمت ظهر البعير، لتخرج الشرطة لنحو أربع سنوات من المعادلة الأمنية على نحو شبه كامل.

تحالف الضرورة
لذلك، تصدّت الشرطة في المرحلة الانتقالية الأولى ظاهرياً للاحتجاجات. وفي تلك المدة، توالت القرارات التي اتخذها وزراء متعاقبون من أجل إعادة هيكلة «الداخلية»، مثل حلّ «أمن الدولة»، واستبدال «الأمن الوطني» به عبر هيكلية شبيهة مع تغيير الوجوه والمسمّى فقط. وقد ادعى الوزراء بأن الوزارة لا تملك أسلحة خرطوش، مع أن الأوراق الرسمية تؤكد صدور قرارات باستخدام بنادق الخرطوش في التعامل مع التظاهرات.
وعملياً، لم «تتحالف» الشرطة مع المواطنين سوى في حكم محمد مرسي (ما بين منتصف 2012 ومنتصف 2013 فقط)، ثم صار ضباطها في طليعة المتظاهرين المطالبين بإسقاط حكم الأخير، ولم يتعرّضوا للناس، بل جمعوا أدلة تدين نظام الرئيس الإسلامي لتقديمها إلى القضاء، وهو ما ساهم في تشديد العقوبات القضائية ضد طاقمه، على عكس ما جرى مع ضباط نظام مبارك، حينما مُحيت البيانات المُسجَّلة عليها أوامر كثيرة صدرت خلال أيام الثورة.
تتمسك «الداخلية» دوماً بالدفاع عن رجالها المتورّطين في القتل


صحيح أن الشرطة «تحالفت» مع المواطنين ضد مرسي، لكنها تحولت بعد ذلك لتقف ضدهم كلياً، ليس ضد المعارضة الإسلامية فحسب (عندما استعملت العنف المفرط في فضّ اعتصامات الإسلاميين في ميدانَي رابعة والنهضة)، بل بمواجهة أي تحرك معارض للنظام. فكان تصدي العناصر والضباط لأي تظاهرات أقوى وأعنف مما كان أيام مبارك، بالاستفادة من تعديلات قانونية خلال حكم عدلي منصور وعبد الفتاح السيسي، بتقييد التظاهر وتشديد العقوبات الخاصة بـ«التظاهر دون تصريح».
أيضاً، لم تنس «الداخلية» استهداف مقارّها إبان «ثورة يناير» وما بعدها من عمليات إرهابية تعرّضت لها، فتحوّلت أقسام الشرطة إلى ما يشبه الثكن العسكرية، بينما صار التعامل العنيف مع أي تحرك هو سيد الموقف من دون أي نقاش، وبات مصير مَن يتظاهر في أي شأن هو السجن، إذ لم تعد الوزارة تتحمل خروج الناس الى الشارع، وخاصة ميدان التحرير، باستثناء الوقفات التي تنظمها الدولة على غرار وقفة الترحيب بولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في زيارته الأخيرة للقاهرة. وفي المكان نفسه، قبل نحو أربع سنوات، قتلت الشرطة الناشطة شيماء الصباغ، التي نزلت لإحياء ذكرى الثورة بالورود، فنالت رصاصة خرطوش منها. حاولت الوزارة تهريب الضابط من المسؤولية، لكن الضغط الإعلامي أسفر عن محاكمة صورية له حصل فيها على حكم مخفف.

تغيير الأسلوب لا المنهج
سنة بعد سنة، تحوّل وزراء الداخلية من بعد ثورة 25 يناير من وزراء ودودين لديهم رغبة في استعطاف المواطنين وتأكيد أن الوزارة ستدعمهم، إلى وزراء يتوعّدون بالردع والعقاب. صحيح أن الدولة واجهت تحديات أمنية استلزمت التعامل بقوة، لكن قوة «الداخلية» كانت على الجميع، واستخدمت في قتل المواطنين بالتعذيب وطمس الأدلة ليحصل الضباط على براءات أو أحكام مخففة.
الانتهاكات لم تتوقف على التعذيب، بل امتدت إلى التصفية الجسدية للمواطنين، تحت دعوى «مواجهة الإرهاب». تفيد التقارير بأن 200 شخص على الأقل قتلوا خلال آخر عامين بالطريقة نفسها من دون التحقق في صلتهم بجماعات إرهابية بالفعل، ضمن حوادث متفرقة كان عنوانها الرسمي «المواجهات المسلحة»، لكن واقعاً كان الأمر مختلفاً، فالأسلحة المضبوطة في جميع عمليات التصفية بلا استثناء لا تتناسب مع الأسلحة المحكي عنها.
واللافت في عمليات التصفية إعلان أسر عدد من المتوفين أن أبناءهم قبضت عليهم الشرطة قبل إعلان قتلهم، كما أن حوادث كثيرة لم يجر التحقيق فيها بعدلٍ، كما في قتل ستة أشخاص بدعوى أنهم قتلة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وثَبُت لاحقاً أنه لا علاقة لهم بذلك، ولم تكن لديهم أسلحة، على رغم إثبات الشرطة العثور على بعض متعلّقات ريجيني في منزل أحدهم.
ودوماً تتمسك الشرطة بالدفاع عن رجالها المتورطين في القتل، وهو منهج لا تتنازل عنه، الأمر الذي يظهر بوضوح في قضية مقتل ريجيني نفسه، الذي ترفض «الداخلية» الاعتراف بقتله على رغم أن أدلة وشواهد كثيرة تشير إلى تعذيبه وقتله على يد ضباط بعينهم في إدارة «الأمن الوطني»، وهؤلاء جرت ترقيتهم للتغطية عليهم. المشهد بمجمله يؤكد أن الشرطة عادت أسوأ مما كانت عليه قبل 2011، وانتقمت من كل الذين انتقدوها أو طالبوا بإعادة هيكلتها، بعدما صار التعرّض لها، حتى باستفسارات تحت قبّة البرلمان، من المحرّمات.