«عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، هي شعارات الثورة المصرية التي لم تتحقّق حتى الآن؛ فلا العيش توفّر، ولا الحرية موجودة، ولا العدالة الاجتماعية وجدت ضالتها في المجتمع. استبقت هذه الهتافات إسقاط النظام، لكن بعد مرور هذه السنوات لم يتحقّق أي منها؛ فالأوضاع الاقتصادية التي تمرّد عليها المصريون في 2011 باتت أسوأ من تلك المرحلة، والفقراء ازدادوا فقراً، والأغنياء زادت أموالهم، خاصة بعد تعويم الجنيه وتخفيض العملة بأكثر من 300% في ثماني سنوات.
من الطبقات الوسطى إلى الفقيرة
تكلفة العيش ارتفعت أكثر من أي وقت مضى، بعدما زادت أسعار الخدمات والسلع وكذلك الضرائب والجمارك بصورة غير مسبوقة، بالإضافة إلى تراجع الإنتاج المحلي، واعتماد الدولة على فرض الرسوم والضرائب لزيادة مصادر الدخل، بدلاً من البحث عن وسائل غير تقليدية من أجل تعويض عجز الموازنة المتدهور.
كلفة العيش زادت في المدن كافة، مع زيادة أسعار العقارات بصورة مبالغ فيها، جراء تدخل الدولة في الاستثمار العقاري وتحويله إلى تجارة مربحة، فزادت التكلفة على رغم بقاء معدّلات الطلب كما هي، ما أوجد فائضاً من الوحدات السكنية والأراضي. والآن هناك مدن كاملة فيها آلاف الوحدات غير المبيعة، خاصة في الصعيد والمدن الجديدة.
حتى نظام مبارك لم يقبل التعامل مع «صندوق النقد الدولي»


أما أسعار السلع الأساسية، فقفزت على نحو رهيب، باستثناء رغيف الخبز الذي بقي سعره «شلن» (5 قروش)، حتى لم يبقَ سعر لسلعة كما كان. ورافقت ذلك زيادة تكلفة النقل، ورفع الدعم عن المحروقات التي زادت أسعارها بنحو خمسة أضعاف على الأقلّ منذ 2011. وتواصل الحكومة تطبيق المزيد من الإجراءات لإلغاء الدعم الكامل، كي يتحمّل المواطنون سعر الوقود وفق الأسواق العالمية، في بلد يقلّ فيه متوسط دخل الفرد عن 100 دولار أميركي شهرياً.
في الوقت نفسه، لم توفر الحكومة فرص العمل، بل أوقفت التعيينات الحكومية وقَصَرتها على القطاع الخاص الذي يقدم رواتب لا تتناسب مع أرباحه، بينما عادت سياسة الخصخصة في صورة طرح لأسهم الشركات في البورصة. وقبلت الحكومة قرض «صندوق النقد الدولي»، بل سعت إليه ونفّذت جميع شروطه، مع أنه الصندوق الذي رفض نظام حسني مبارك التعامل معه بسبب سياساته الاقتصادية التي تؤدي إلى زيادة الفقر، وتحقّق نتائج اقتصادية على حساب الفئات الأكثر فقراً، وهو ما حدث بالفعل بعدما سحب آلاف الأسر من الطبقة المتوسطة إلى الطبقات الفقيرة، وتغيّرت العادات اليومية للأسر.
ومن جهة أخرى، أكلت الدولة جميع الزيادات الرسمية التي أقرّتها كعلاوات استثنائية أو كزيادة في الرواتب في الشهور الأولى بعد الثورة، فأخذت من المواطنين أكثر مما أعطت، لتنتهي إلى موازنة مثقلة بالديون، مع توقّف عجلة الإنتاج بصورة شبه كاملة، إلى جانب ركود متكرّر في قطاع السياحة.

الحريات والعدالة تحت الطحن
في شأن الحريات، يَصدق المثل: «حدث ولا حرج» على قمعها، إلى درجة تفوق ما كان عليه الوضع قبل 2004. فالدولة لم تعد تسمح بالتظاهر أو الاعتراض، ودفعت برجالها في جميع المجالات ليعتلوا المناصب المختلفة بالانتخاب، مُوجِهةً الدعم المالي إليهم. وهكذا صارت تحافظ على الإطار الشكلي للديموقراطية، لكنها في الواقع تمارس الإقصاء ورفض الصوت المعارض، حتى لو من داخل النظام. فكان اختيار نواب البرلمان بما يشبه التزكية من الأجهزة الأمنية، ولم يتمكّن سوى عدد محدود للغاية من الوصول إلى تحت القبّة باسم المعارضة، ليكون «نائباً بلا أنياب»، ثم تعرّض كثيرون منهم لحملة تشويه لم تتوقف.
حتى الحريات النقابية التي كانت موجودة بهامش جيد في عهد مبارك لم تعد موجودة؛ فالنقابات جرى تأميمها تقريباً، وجميع قياداتها صاروا في طوع الحكومة كلياً أو هم مغضوب عليهم ولا يتمكنون من أداء مهماتهم (كما حدث في «نقابة الأطباء»)، أو يمرّرون ما تريده الحكومة بغض النظر عن الرفض الفئوي، كما حدث في «نقابة الصحافيين» التي يتولى منصب النقيب فيها رئيس مجلس إدارة مؤسسة «الأهرام»، وهو صار يوافق على قوانين ولوائح تتعارض مع حرية الصحافة، كما منع التظاهر على سلم النقابة الذي لطالما احتضن الوقفات الاحتجاجية.
أما الشباب، فانقسموا إلى فرق، فمنهم من سافروا مضطرين، وآخرون بقوا خلف القضبان، أو اضطروا إلى الصمت حتى يستمروا في أعمالهم. حتى الفئة الأخيرة تتعرّض لاضطهاد ومضايقات وتهديدات بقضايا قديمة لا تزال مفتوحة أمام القضاء من الناحية الشكلية.
أخيراً، العدالة الاجتماعية لا تزال غائبة، ليس بسبب التفاوت الكبير في الدخل بين الفئات الأكثر فقراً أو الأكثر دخلاً فقط، بل لأن عناصر الجيش والشرطة وأسرهم هم الذين استفادوا أكثر من غيرهم من المطالبة بالعدالة الاجتماعية، بعد زيادة رواتبهم ومكافآتهم لتتضاعف في مدد قصيرة، فضلاً عن مزايا مالية كبيرة.