القاهرة | انتهت إجراءات الدولة المصرية من اعتقالات بالجملة وتحويل القاهرة إلى ثكنة عسكرية، فضلاً عن نشر الجيش، إلى تظاهرات محدودة في العاصمة وعدد من المحافظات بعيداً عن الميادين الكبيرة وعدسات الإعلام. وبينما استنفر النظام في مواجهة دعوات الاعتراض، فتح الأبواب واسعاً لوقفات التأييد التي حشد لها. مع ذلك، يستمر ترقبه لموجة جديدة من الاحتجاج وسط انتظار لما سيقدم عليه عبد الفتاح السيسي من إصلاحات أو خطوات تستجيب لمطالب الشارع الذي تأكد بوضوح ارتفاع الغضب داخله، في وقت أعاد فيه الجيش سيناء إلى الواجهة.يوم عصيب مر على مصر. حوّلت الدولة المشهد من التظاهر لمعارضة النظام ليكون مسيرات مؤيدة وداعمة للرئيس عبد الفتاح السيسي في ميدان المنصة. الاستنفار الأمني أمس لم يحدث منذ سنوات. كما أغلقت أجهزة الأمن عدداً من محطات المترو المؤدية إلى ميدان التحرير تجنباً لمسيرات مفاجئة. أما المفاجأة الكبرى، فكانت خروج تظاهرات في الصعيد، وتحديداً مدينتي الأقصر وقنا، ليجري تفريقها بهدوء من دون إصابات. مهما تكن النتيجة الميدانية، لا أحد ينكر أن دعوات التظاهر لإسقاط النظام أزعجت السيسي ونظامه، إلى درجة جعلت «المخابرات العامة» تنظم استقبالاً حافلاً له فور وصوله من نيويورك، وقف فيه مدير مكتب اللواء عباس كامل، الضابط أحمد شعبان، وهو يصور الجماهير المحشودة في سيارات وزارة الشباب والرياضة للترحيب بـ«الجنرال» الذي كانت في انتظاره المذيعة المحجّبة آية عبد الرحمن، حاملة ميكروفوناً دون «لوغو»، وبجوارها شيخ وقسيس، في وصْلة مجاملة مكررة، بداية من الجماهير التي تم اختيارها بعناية شديدة وسط تدابير أمنية عالية، ورجل دين مسيحي قال له: «شكراً لأنك قبلت أن تحكمنا»، وصولاً إلى المذيعة التي كانت مرتبكة بشدة، بانتظار العبارات المرتبة التي تخرج من الرئيس الذي لمّح إلى إمكانية طلبه تفويضاً جديداً من المصريين ينزلون فيه إلى الشوارع لدعمه!
في مطار القاهرة، كان للمشهد رسائل واضحة، فالسيسي الذي غاب أسبوعاً للمشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة وقف في مقدمة مستقبليه رئيس البرلمان، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع، ومسؤولون آخرون، ليؤكد بذلك أن الجيش ومؤسسات الدولة تدعمه، وأن لا مجال للخيانة. وما هي إلا دقائق حتى احتفلت صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي بوصوله، ناشرة بسرعة صوراً ومقاطع فيديو. أرسل الرجل كل ما يريد قوله من أرض المطار، في مشاهد حاول تصميمها كأنها عفوية، لكنها دُرست جيداً بما فيها توقيت الوصول وتوقيت البث على شاشات التلفزيون قبل صلاة الجمعة. حتى إن وقوف سيارة الرئيس ونزوله للحديث خطّط له على مدار أيام، كما تنقل مصادر، فيما ظهر واثقاً من نفسه أمام الكاميرات التي ركزت عليه بمفرده من دون أن تظهر المذيعة التي بات النظام يستخدمها خلال الأيام الأخيرة دون غيرها بصورة مكثفة، ليقول إن ظهور شابة محجبة تأكيدٌ أنه لا يعارض الإسلام، بل «التطرف والإرهاب باسم الدين». السيسي رأى أنه «لا يمكن خداع الشعب المصري، ومن ثمّ لا داعي للقلق، لأن الشعب أصبح أكثر وعياً»، مؤكداً أنه «لا يمكن تزييف الواقع»، وأنه عندما يطلب التفويض من الشعب مجدداً «سينزل الملايين إلى الشوارع كما حدث في 2013»، وهو ما يعني أن «الجنرال» لا يزال يعتقد بأن شعبيته كما كانت قبل ست سنوات، رغم تراجعها حسب جميع استطلاعات الرأي وتقارير الأجهزة السيادية. وعن التظاهر ضده، قال: «إحنا لسّه بنتكلم من أسبوع في الموضوع ده قبل ما أسافر، وقلت يا مصريين خلي بالكم مش هيسبوكم تنجحوا ولا تتهنوا على حاجة. دي حرب بينا وبينهم. مجموعة صغيرة في مقابل الشعب كله».
وقع قتلى وجرحى للجيش خلال هجوم كبير في سيناء


من جهة أخرى، وعلى رغم إنكار الإعلام المحلي وجود تظاهرات معارضة، أصدر النائب العام الجديد، المستشار حمادة الصاوي، بياناً أكد فيه أن «النيابة تحقق مع أقل من ألف شخص» بعد تظاهرات الجمعة قبل الماضية، وأن التحقيق يجري بحضور محاميهم، فضلاً عن «التحفظ على كاميرات مراقبة» الأماكن التي حدثت فيها التظاهرات، مع صدور أمر بفحص صفحات المهتمين على مواقع التواصل «لتحديد مستخدميها، ومن أصدر لهم الأوامر». وحدد الصاوي للمرة الأولى فئات المتظاهرين، شارحاً أن هناك فئة خرجت بسبب سوء الأحوال الاقتصادية وفئة أخرى «تعرضت لخداع من صفحات على مواقع التواصل منسوبة إلى جهات حكومية وثالثة أكدت أنها خرجت لمعارضتها نظام الحكم»، فضلاً عمّن اعترفوا بتحريضهم على تصوير مشاهد من «التحرير» لبثها عبر قنوات معارضة. وأضاف النائب العام إن «عناصر جنائية اشتركت في التظاهرات وأخرى تتبع جماعة الإخوان... وآخرين قالوا إنهم خرجوا في أجواء للاحتفال بكأس السوبر»، مشيراً إلى أن الشرطة «التزمت أقصى درجات ضبط النفس في مواجهة بعض المتظاهرين الذين ألقوا الحجارة والزجاج والألعاب النارية». الصاوي نفسه كان قد حذر المواطنين قبل أيام من «الانخراط فى مخططات تم فيها استغلالهم للإضرار بوطنهم»، وهو ما يعارض جميع الروايات الرسمية التي جرى ترويجها خلال الأيام الماضية، وفيها أن التظاهرات لم تتجاوز العشرات، كما أن بيان النيابة العامة يظهر أن عدد المقبوض عليهم بكثير مما أعلنته المنظمات الحقوقية المستقلة والمحامون.
ورغم تزايد التنبؤات بإحالة رئيس هيئة الأركان، الفريق محمد فريد، على التقاعد في الحركة المقبلة للقوات المسلحة، ظهر فريد أمس ليشهد إجراءات التفتيش ورفع الكفاءة القتالية لإحدى وحدات المنطقة الجنوبية العسكرية، مؤكداً خلال جولته أن «القوات المسلحة شهدت... قفزة غير مسبوقة نحو تطوير نظم التسليح والتدريب للتشكيلات والأفرع الرئيسية كافة»، وأن «أمن مصر وسلامتها يكمن في الحفاظ على قوات قوية وقادرة ومستعدة للتضحية. وجاءت زيارة رئيس الأركان قبل ساعات من إعلان الجيش حدوث هجوم على كمين التفاحة في منطقة بئر العبد شمالي سيناء أسفر عن مقتل نحو 15 ضابطاً وجندياً، وسط تكتم كامل عن تفاصيل هجوم هو الأعنف منذ أسابيع، وخاصة أن بئر العبد من المدن المؤمنة جيداً نظراً إلى بعدها نسبياً عن المنطقة الحدودية. وبعد ذلك بساعات قليلة، أصدر الجيش بياناً قال فيه إنه تم «القضاء على 118 مسلحاً»، مقرّاً بمقتل وإصابة ضابط وتسعة من جنوده، وذلك خلال مدة زمنية لم يعلنها. وقال البيان إن القتلى والإصابات سقطوا «في إطار استكمال جهود القوات المسلحة والشرطة لمكافحة الإرهاب على كل الاتجاهات الاستراتيجية للدولة خلال الفترة الماضية حتى اليوم... تم تنفيذ عمليات نوعية أسفرت عن القضاء على 118 تكفيرياً عثر بحوزتهم على عدد من البنادق مختلفة الأعيرة وعبوات ناسفة معدّة للتفجير بشمال ووسط سيناء (شمال شرق)»، لكن من دون عرض تفاصيل أخرى سوى بعض المقاطع والصور.
وكان لافتاً أن السيسي عقّب بعد ذلك على «تويتر» بالقول: «سلامٌ على كل من روى بدمائه الزكية تراب هذا الوطن العظيم... اليوم نال الإرهاب الغاشم عدداً من أبنائنا الأبرار. معركتنا مع الإرهاب لم ولن تنتهي من دون إرادة شعبية عازمة على القضاء عليه».