القاهرة | لا يمكن النظر إلى الصراعات الدائرة في أجهزة الدولة المصرية وبينها سوى على أنها تعبير عن جزء من صراعات الدولة العميقة التي شكّلت إرثاً ثقيلاً من «ثورة يوليو» 1952، حتى رحيل نظام محمد حسني مبارك في 2011. صحيح أن «دولة» عبد الفتاح السيسي حاولت، منذ اللحظة الأولى لتسلّمه مقاليد الحكم، التخلّص من أزمة الصراعات التي صارت لازمة في بنية الدولة، لكن هذا الإرث لا يزال عبئاً ثقيلاً، ولم ينجح السيسي في حسمه حتى بعد نحو سبع سنوات كانت الكلمة الأولى فيها له. بقراءة متأنية للواقع المصري، لم تكن البيروقراطية، التي شكّلت عقبة واضحة أمام أيّ محاولات لتحقيق قفزات استثنائية داخل المجتمع، محصورة في الجهاز الإداري للدولة، بل عششّت في الأجهزة السيادية المحيطة بالرئيس. هذه الأجهزة هي التي أخرجت مبارك ووزراءه من السجن وبرّأتهم من نهب الأموال، وهي نفسها التي زجّت بجماعة «الإخوان المسلمون» وقياداتها (بداية من الرئيس الراحل محمد مرسي حتى أصغر القيادات) في السجون، بأدلة ربما تعتري بعضَها شكوك كثيرة. حتى في ذروة الانفلات الأمني إبّان «ثورة يناير»، كانت هذه الأجهزة تواصل أعمالها في تسجيل المكالمات ومراقبة التحركات لاستغلالها في الوقت المناسب، وهو ما تبين في مراقبة تحركات مرسي بعد هربه من سجن «وادي النطرون»، وصولاً إلى تسجيل مكالمات رئيس الأركان آنذاك الفريق سامي عنان مع المدير الأسبق لـ«الوكالة الدولية للطاقة الذرية» محمد البرادعي، الذي دعا إلى جمع التوقيعات الشعبية من أجل إطاحة مبارك.
السيسي ابن المنظومة
عبد الفتاح السيسي ليس غريباً عن هذه المنظومة، بل هو في عمقها؛ إذ سبق أن تولى إدارة «المخابرات الحربية» قبل «ثورة يناير» بنحو عام. ولعبت معه المصادفة دوراً يشبه ما حدث لمبارك؛ فكلاهما لم يكن يتخيّل الوصول إلى كرسي الحكم؛ الأول أوصلته «كامب ديفيد» إلى منصب نائب الرئيس، ثم أوصله الإسلاميون إلى الرئاسة باغتيال محمد أنور السادات، بعدما كان أقصى طموحه أن يُعيَّن دبلوماسياً في إحدى الدول الأوروبية! والثاني أبقته «ثورة يناير» في «الحربية»، على رغم أن عنان لم يكن راضياً عنه. لكن وزير الدفاع الأسبق، المشير محمد حسين طنطاوي، الذي كان السيسي ولا يزال يراه مثل والده، كان السبب الوحيد في بقائه، ولهذا بقي قريباً منه لمّا كان برتبة عميد، ثم جاءت بقية القصة بصعوده وزيراً للدفاع بعد انتخاب مرسي في 2012.
ما بين 2011 و2014 تحرّك السيسي بعقلية المنظومة البيروقراطية التي تُعطّل ما تريد وتنتهز الفرص لتحقيق أهدافها، فجاءت إدارة الجيش لمجموعة من الشباب المعارضين لحكم «الإخوان» ومساعدتهم في تحريك الشارع. إلى جانب ذلك، شجّع السيسي الأطراف المعارضين للجماعة، وجمَّعهم لإظهار رفض شعبي أمام المجتمع الدولي. ثم انطلق من «بيان 3 يوليو» 2013 ليسيطر على مفاصل الدولة كلياً مع إبقاء رئيس «المحكمة الدستورية»، عدلي منصور، رئيساً مؤقتاً للبلاد حتى إعداد دستور وإجراء انتخابات. وهو ما حدث بالفعل في أقلّ من عام انتهى بوصوله إلى الرئاسة بعد منحه رتبة المشير، وهي أعلى رتبة في الجيش، ولا يحصل عليها أحدٌ إلا استثناءً، ثم استقال من الجيش قبل يوم واحد من غلق باب الترشح.
التغيير الدوري لأعضاء «العسكري» كان تحصيناً للسيسي من أيّ تحالفات ضدّه


«الجنرال»، الذي وصل إلى قمّة السلطة، حاول الخروج من المنظومة العميقة تدريجياً ومن دون مشكلات، ثم عمل على تفتيت الأصوات والكتل والرموز السياسية التي أوصلته إلى مبتغاه. فهناك من اضطر إلى الابتعاد مثل البرادعي، أو صار رهن التهديد مثل رئيس حزب «الوفد»، السيد البدوي، الذي يواجه شبح الحبس بسبب شيكات من دون رصيد، وآخرون عملوا في الخارج أكثر من الداخل مثل الأمين العام الأسبق للجامعة العربية، عمرو موسى. كما سجن المتمرّدين ولاحقهم، مثل الفريق أحمد شفيق، وَصِيف رئاسيات 2012، وحتى عنان الذي رغب في منافسة السيسي في انتخابات 2018. أما مَن لم تَنلهم يد الغضب، فتجمّل عليهم بمناصب فضفاضة من دون تأثير مع تعليمات بالصمت، مثل منسق حملة «تمرد» محمود بدر الذي وصل إلى البرلمان وصار يمتلك شققاً وسيارات بعدما كانت حياته تحت خطّ الفقر.

دولة السيسي
هكذا، صنع السيسي دولته الخاصة منذ إطاحة مرسي، وأعاد صياغتها بما يتوافق مع ما يراه صائباً. فخلال الاضطرابات من 2011 حتى تنصيبه رئيساً منتصف 2014، لم تكن لدى الدولة سياسة واضحة في التعامل مع الملفات الخارجية والداخلية، وبالنتيجة مئات المواقف المتناقضة، وآلاف جرى تصعيدهم ثم أُقصوا سريعاً. صنع «الجنرال» دولته من داخل هذه الدولة. وهو قال إنه يريد أن يصنع دولة جديدة كالتي صنعها جمال عبد الناصر، وكرّر حديثه عن رغبته في أن يكون الإعلام مثلما كان إبان عبد الناصر: إعلام الصوت الواحد. في هذا المسار، اعتمد على ذراعه اليمنى، اللواء عباس كامل، الذي رافقه من مكتبه في المخابرات الحربية إلى مكتبه في وزارة الدفاع وصولاً إلى قصر الرئاسة. ومثلما كان السيسي وفياً لطنطاوي حتى بعد تقاعده، ويحرص على اصطحابه في المناسبات العسكرية، كان كامل وفياً لتلميذه أحمد شعبان، الضابط الشاب (رتبة مقدم) الذي «يحب بلده ويكره ثورة يناير» - مثل رؤسائه - لأنها أضرّت بالبلد، على رغم أن هذه الثورة أوصلتهم إلى مواقع لم يتخيّلوا أن يدخلوها. وبينما اعتمد السيسي على كامل بصفته مديراً لمكتب رئيس الجمهورية، صار شعبان مديراً لمكتب كامل، ليكون الثنائي عينَي وأذنَي السيسي في الإدارة، قبل أن يتسبّبا في كوارث نتيجة سياسة الصوت الواحد.
من تلك الكوارث التوسّع في أعمال الجيش المدنية لتحقيق مزيد من الأرباح، وإقناع الرئيس بالإسراع في تنفيذ المشروعات من أجل الاستفادة من فروق الأسعار بعد تحرير سعر الصرف عبر قوانين أقرّها مجلس الوزراء، وهذه النقطة تحديداً كانت المحرك الرئيس للاحتجاج الأوسع ضد السيسي بعد ما نشره المقاول محمد علي عقب هربه إلى أوروبا وحديثه عن خسارته 250 مليون جنيه، علماً بأنه كان من أكبر المقاولين الذين ينفذون مشروعات الجيش. بعيداً عن هذا الملف، نجح السيسي في بناء طبقة سياسية وعسكرية جديدة بعدما غيّر الأخيرة بالكامل، إذ إن جميع رفاقه في «المجلس العسكري» تمّت إقالتهم وإقصاؤهم، ما بين تقاعد في تغييرات دورية أو ترقيات إلى مناصب أعلى. حتى هذه المناصب استبعد بعضُ من فيها مثل الفريق مهاب مميش الذي أقيل في آب/ أغسطس الماضي من رئاسة «هيئة قناة السويس»، وعُيّن مستشاراً للرئيس، وهو منصب ليست له أيّ مهمات فعلية. التغيير الدوري لأعضاء «العسكري» كان تحصيناً للرئيس من أيّ تحالفات أو تحركات قد تُخطَّط ضده، فقادة الأفرع والأركان لا يستمرون في مناصبهم لمدد طويلة. حتى وزير الدفاع السابق، الفريق أول صدقي صبحي، أُقصي من منصبه مع بداية الولاية الثانية، علماً بأنه تولى الوزارة بعد استقالة السيسي. والآن، صبحي يملك دوراً محدوداً في المؤسسة العسكرية، ويظهر بين حين وآخر، ويقوم على مهمات نيابة عن الرئيس كان آخرها تمثيل البلاد في جنازة قائد أركان الجيش الجزائري، أحمد قايد صالح.
أما سياسياً، فأحرق السيسي ودائرته جميع السياسيين على الساحة، من مرحلة مبارك حتى وصوله، بِمَن فيهم المؤيدون، ما بين اتهامات التربح والثراء وخيانة الوطن، وصولاً إلى صناعة معارضة جديدة من رحم النظام، وهو ما صيغ بوضوح واضح في «لجنة تنسيقية الأحزاب» التي تضمّ شباباً تُقدّمهم الدولة في إعلامها على أنهم سياسيون، وهم في الأصل واجهة ويفتقدون أسس العمل السياسي والاجتماعي.

صدام الأجهزة
ربما سار كلّ ذلك جيداً إلى أن أتت المشكلة. فتغيير بنية الدولة، وتعامل أجهزة مع ملفات لم تكن لها علاقة بها مباشرة، مثل تعامل المخابرات العامة مع الإعلام والإنتاج الفني، وإجراء مقابلات لسياسيين في مقرّ الجهاز في منطقة القبة، والتوجيه الإعلامي للإعلاميين عبر الضباط، انعكس كلّه اضطراباً وتصارعاً بين أجهزة الدولة. في البداية، انتصر كامل بعد صراع لعام ونصف عام انتهى بإقصاء اللواء خالد فوزي الذي يخضع للإقامة الجبرية، ليتولى الأول الإشراف مباشرة على إعادة هيكلة المخابرات العامة، مع بروز نجم محمود السيسي، الضابط الذي حصل على ترقيات استثنائية وبات له دور كبير في الجهاز الحيوي. وإلى جانب إقصاء فوزي، استُبعد جميع مساعديه في الجهاز أو خارجه، ما أدى إلى إحالة وكلاء من المخابرات على التقاعد وتهميش إعلاميين كانوا على تواصل مستمر معهم.

أمام الرئيس الآن ثلاثة مسارات لكلّ منها محاذيره ويجرّب العمل بها بالتوازي


مع انتقال اللواء كامل رسمياً إلى إدارة «العامة»، كانت هناك ضرورة لإيجاد لواء على قدر من الثقة والعلاقات ليتولي إدارة مكتب الرئيس، فجرى اختيار محسن عبد النبي، وكان مدير الشؤون المعنوية في الجيش. مع ذلك، حاول كامل أن يدير مكتب الرئيس من مكتبه في المخابرات، ما أشعل صداماً بين الرجلين استمرّ مكتوماً أكثر من عام قبل أن يبرز على السطح. ظهر الخلاف مع استماع الرئيس لوجهتَي نظر مفصّلتَين في أزمة محمد علي خلال أيلول/ سبتمبر الماضي: الأولى تبنّاها عبد النبي ومساعدوه، والثانية تبنّاها كامل ونجل السيسي، لكن الأخيرة التي أخذ بها الرئيس أدخلته في متاهة انتهت، بخلاف صداها الداخلي، إلى تغير نظرة السيسي إلى أصحابها، باستثناء ابنه الذي أخرجه من المشهد. الرئيس ذو الخلفية العسكرية بقي يتعامل مع القرارات بنوع من التعالي، فهو لا يرغب في أن يكون هناك تصور بإمكانية خضوعه للضغط، حتى لو كان قادماً من الدائرة المحيطة به. لذلك، جاء تسريب قرارات مثل نقل شعبان إلى السفارة المصرية في اليونان وابتعاث ابنه محمود في مهمة في روسيا بنتائج عكسية جمّدت هذه القرارات قليلاً، مع تحجيم أصحابها الذين باتوا يحاولون استغلال الوقت لتحسين صورتهم ومحاولة البقاء في الدائرة المحيطة به.

حسم أو صراع
اليوم، يجد «الجنرال» نفسه مطالَباً باتخاذ قرار حاسم بين خيارات محدودة؛ فالخلافات بين مكتب الرئيس والمخابرات العامة، مع ما يصاحبها من زجّ بالضباط فيها، ليست في مصلحة الدولة، ولا تضمن بقاء تقديرات الموقف «نظيفة»، فضلاً عن أن اللواء كامل، رفيق رحلة الصعود الذي قدّم إليه «خدمات جليلة»، صار ضرره أكثر من فوائده. ولا يوجد أمام السيسي سوى ثلاثة مسارات: أولها تحمّل نتائج عودة الأجهزة إلى الصراع وتناقض التصرفات في الملفات، وثانيها إقالة كامل ومساعديه مع إتاحة الفرصة لوجوه أخرى في ظلّ وجود أسماء مرشحة لتولي رئاسة «المخابرات العامة»، من بينها رئيس «المخابرات العسكرية» الحالي لواء أركان حرب خالد مجاور، أما الثالث والأخير فإقالة عبد النبي ومساعديه، وهو أمر ربما يكون مستبعداً، ليس لدقة التحليلات التي قدّمها الرجل فقط، لكن لقلة الخلافات التي تسبب فيها.
على أيّ حال، بدأ تدخل الرئيس بنفسه لإعادة شخصيات عسكرية أُقصيت بسبب خلافها مع كامل، وآخرها الفريق أسامة عسكر الذي عاد رئيساً لـ«هيئة العمليات في مدن القناة وسيناء» بعد إقالته ووضعه تحت الإقامة الجبرية من أجل استرداد أموال حصل عليها بطريقة غير شرعية. هذه الخيارات المحدودة لا تغفل أيضاً وجود رغبة مشتركة بين السيسي ووزير الدفاع الحالي، فريق أول محمد أحمد زكي، في تقاعده. ثمة ما يشاع عن طلب زكي التقاعد لأسباب خاصة، لكن وجهة أخرى تقول إن السيسي لم يكن راضياً عن تصريحات للوزير ظهرت بكثافة في الأشهر الأخيرة. لذلك، في بداية 2020، لدى الرئيس أجندة ستحدّد وجه ما تبقّى من ولايته الثانية التي مدّدها بتعديل الدستور العام الماضي لتنتهي منتصف 2024.



إعلام الدولة يفشل


في الولاية الأولى، نفّذ عبد الفتاح السيسي رؤية عباس كامل (الصورة) وأحمد شعبان كاملة. كانت فكرتهما أن الإخفاق في إدارة ملف الإعلام الحكومي والانفلات في الإعلام الخاص يدفعان إلى إنشاء إعلام حكومي خاص موازٍ، شكّل إطلاق شبكة «dmc» باكورته. لكن المشروع الذي حصل على تمويل إماراتي لم ينجح، وتقلّص من شبكة إلى قناتين فقط، ثم أُغلقت ثالثة بعد أشهر من انطلاقها، كما استمرّ الإعداد لقناتين على مدى سنوات من دون انطلاقهما. ولاحقاً، تحوّل المشروع من المنافسة مع الإعلام الخاص إلى الاستحواذ الكامل عليه عبر شركات تمتلكها المخابرات، التي أجبرت رجال الأعمال على البيع والتهديد بالحبس، مع إقصاء منهجي للوجوه ذات الشعبية، إلى جانب تهديدات للمعلنين. هذه السياسة أخفقت أيضاً؛ فبخلاف الإنفاق السخي لسنوات، والاعتماد على رجال أقلّ كفاءة أو ليست لديهم خبرة، وأخيراً صاروا متهمين بالسرقة والاختلاس، انهار المشروع. لم يدرك السيسي الحقيقة إلا مع أزمة محمد علي، فأصرّ على الخروج بنفسه في مؤتمر ليوم واحد للردّ، بعدما وجد الإعلام الذي كان يعتقد أنه مؤثر غير قادر على إيصال ما يريده.


«تنظيم طليعي» على طريقة السيسي!


على رغم أن فكرة إقامة مؤتمرات للشباب كانت من بنات أفكار المقدّم أحمد شعبان (الصورة)، وحققت في بدايتها انطباعات إيجابية، فإن استهلاك الفكرة في أكثر من مناسبة والتعامل معها بطريقة احتفالية هما من الأسباب التي أفقدتها جوهرها، لتصير مؤتمراً يوصي بإقامة آخر، حتى تحولت إلى رحلات ترفيهية للمشاركين، ولا سيما في شرم الشيخ، فضلاً عن استبعاد الوجوه المعارضة منها بصورة ملحوظة. فعلى غرار «التنظيم الطليعي» الذي أسّسه جمال عبد الناصر وانتهى برحيله، أسّس السيسي «الأكاديمية الوطنية للشباب» لتدريب الشباب على الوصول إلى مناصب قيادية. أكاديمية جرى تخصيص وبناء مبانٍ فارهة لها لتدريب شباب مؤيدين تماماً، حتى وإن تظاهروا بالمعارضة أحياناً لبعض القرارات، وصولاً إلى تمكينهم من مفاصل الدولة، سواء بمنح بعضهم مناصب في الوزارات أو بتعيينهم في مناصب رسمية بعد مدد تدريب قصيرة. الثابت في هذه التجربة أن اختيار «شباب السيسي» جاء بعيداً عن الكفاءة، لأن المعيار كان الولاء، وهو ما ظهر في اختيار أبناء عائلات سياسية، منهم مثلاً إبراهيم الشهابي، وهو نجل ناجي الشهابي رئيس حزب «الجيل»، أحد الأحزاب الشكلية المؤيدة للرئيس.