القاهرة | مع أن انتقال كامل الوزير من منصبه رئيساً لـ«الهيئة الهندسية للقوات المسلّحة» ليصير وزيراً للنقل، جاء بعد حادث قطار أطاح سلفه هشام عرفات على غرار معظم وزراء النقل المصريين، فإن الوزير، الذي حصل على رتبة فريق قبل تقاعده من الجيش وتولّيه الوزارة المدنية، يبدو صامداً أكثر من غيره، حتى مع تكرار الحوادث. فالرجل القادم من خلفية عسكرية عمل على تعديلات هيكلية في منظومة السكّة الحديدية لتحقيق أكبر عائد للدولة، وهو ما يجعل الرئيس عبد الفتاح السيسي يشعر بالرضى عن أدائه.على أرض الواقع، لم يختلف الوزير عن غيره، على رغم الخطّة الجاري تنفيذها لتأهيل وتطوير منظومة السكك بعد عقود من الإهمال. فقد سارع إلى تحريك الأسعار مرّات عدّة في مدّة قصيرة، كما ضاعف من الغرامات، فيما لم يعمل على تأهيل العنصر البشري في الهيئة التي تعاني مشكلات جمّة ــــ على رغم استخدام التكنولوجيا في التشغيل ــــ حتى في أبسط الإجراءات، ما يؤدي إلى زيادة الحوادث. والأسوأ أنه منذ اليوم الأول لتولّيه الوزارة، عمل على عسكرتها وإسناد المناصب إلى عسكريين متقاعدين ومن بعدهم إلى مدنيين. ثمّ بعدما طبّق جزاءات صارمة، صار يركّز على المشروعات ذات العائد المادي في المقام الأول، بغضّ النظر عن عملية التطوير التي يُفترض منحها الأولوية للحدّ من الحوادث.
مشكلة أخرى تنقلها مصادر في الداخل، هي استمرار الاعتماد على التعليمات الشفهية في أمور جوهرية؛ بينها جهاز التحكُّم الآلي في القطارات. والمصيبة الكبرى أنه بسبب الرغبة في مزيد من الأرباح، عملت هيئة السكة على زيادة القطارات بما لا يتناسب مع عوامل الأمان المنقوصة أصلاً، ما قلّل من زمن «التقاطر» بين القطارات وزاد من خطورة الحوادث. وفوق ذلك، جرى إيقاف شبه كامل للتعيينات الجديدة بسبب خطّة الدولة لتقليل أعداد الموظفين، إلى جانب غياب برامج مكتملة وواضحة لتدريب السائقين والفنّيين.
قبل أسابيع قليلة، تصادَم قطاران في الصعيد مخلّفَين أكثر من 20 قتيلاً، والأسبوع الماضي خرج قطار عن القضبان في محافظة الشرقية مخلّفاً عشرات المصابين، وأمس انقلبت عربات قطار من القاهرة إلى المنصورة مخلّفة نحو 15 قتيلاً وأكثر من 100 مصاب. ما يجمع بين الحوادث الثلاثة ليس الخطأ البشري الذي تسبّب في زيادة الكوارث فحسب، بل الإهمال الذي أدّى إلى حادثة أمس وحادثة قطار الزقازيق. ففي تعليمات التشغيل والسلامة، تختلف سرعة القطارات من منطقة إلى أخرى، وفي مناطق الإصلاحات هناك سرعات لا يمكن تجاوزها. لكن في حادث الشرقية، لم يُبلغ ناظر المحطّة سائق القطار بمنطقة الإصلاحات، ما جعله يزيد السرعة فانقلبت العربات، وهو ما تكرّر أمس، إذ لم يُبلغ ناظر محطة شبرا السائق بمنطقة الإصلاحات فدخل الأخير بسرعة تقترب من 120 كلم في مسار يُفترض ألّا يسير فيه سوى بسرعة 30 كلم.
المهمّ بالنسبة إلى الوزير والسيسي هو استمرار الأرباح بأكبر قدر من دون إصلاح حقيقي


وفق تعليمات التشغيل، أيضاً، هناك أكثر من إجراء يجب اتّباعه: الأوّل توقيع السائق على إبلاغه بمكان ومسافة الإصلاح والسرعة التي يُفترض أن يسير بها هناك، والثاني وجود موظّف ينتظر القطار عند بداية نقطة الإصلاح، وفي حال غيابه يجري الإبلاغ للمتابعة مع مشرف القطار، فضلاً عن وجود «ديسك الخطر» الذي ينبّه السائق إلى إصلاحات في المنطقة من أجل مراجعة السرعة. في الحوادث السابقة، كان الخطأ في توقُّف إشارات القطارات، لكن اليوم، مع اكتمال المنظومة الإلكترونية، بات الخلل في تفاصيل بسيطة يُفترض أن ينتبه إليها العاملون، فضلاً عن التباين في التزام السائقين في تشغيل جهاز المكابح والتحكّم الآلي، بعدما صدرت تعليمات شفهية بإيقاف العمل به نتيجة تسبّبه في تأخّر القطارات، لكن بعض السائقين يُشغّلونه لتجنب أيّ إجراءات عقابية إذا تعرّض القطار لحادث.
لا يبدو أن ثمةّ رؤية لعملية تطوير حقيقي لدى وزير النقل بصفته المسؤول المباشر ،ولا حتى لدى الحكومة الرئاسية التي تسعى إلى تنفيذ مشروعات أخرى موازية بدلاً من إصلاح القائمة، بسبب ارتفاع الكلفة وقلّة العائد مقارنة بخيارات؛ من بينها القطار الفائق السرعة الذي سيربط العين السخنة بالعلمين الجديدة، مروراً بالعاصمة الإدارية الجديدة. وفيما لا يظهر أن وزير النقل سيتأثّر بالحوادث بأكثر من استبعاده من بورصة الترشيحات لرئاسة الحكومة وتراجُع صورته أمام الرأي العام، فهو يدفع بمساعديه إلى الاستقالة ككبش فداء مع تقاعدهم بكامل مستحقاتهم. وهكذا، يبقى كامل الوزير ينفّذ سياساته التي يراها صائبة، مُحمّلاً دائماً نظام محمد حسني مبارك تركة الإهمال. والبديل من وجهة نظره هو الإيقاف الكامل للسكك التي تنقل 420 مليون مواطن سنوياً حتى انتهاء التطوير من أجل وقف الحوادث!


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا