على بعد كيلو مترات من موقع المناورة العسكرية المصرية ــ السودانية «حماة النيل»، خرج رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الأحد الماضي، معلناً عزمه بناء أكثر من 100 سد صغير ومتوسط في عدة مناطق محاذية للحدود مع السودان، خلال العام المقبل.ورغم ما تحمله تلك التصريحات من تصعيد خارجي تجاه مصر والسودان، وهو مسار طويل تصاعد منذ البدء الأول لسد النهضة، فإن أحمد يحسن استغلالها لحشد وتأجيج مشاعر الإثيوبيين، ضد من يسمّيهم «أحفاد المستعمرين».
ويُقابل تصعيد أديس أبابا الرسمي، تصعيد مماثل في القاهرة والخرطوم؛ وهو مسار يرى باحثون متخصصون أنه «مؤشر خطير» على بدء الأنظمة في «تهيئة الداخل لتصعيد أكبر».

تعنّت.. أم طموحٌ أكبر

كانت لحظة ارتقاء آبي أحمد لرئاسة وزراء إثيوبيا، لحظة فارقة في تاريخ إثيوبيا الحديث، إذ تنامت الآمال لتحوّل سياسي نحو الديموقراطية في دولة عانت عقوداً بين ديكتاتوريات وأنظمة قمعية متعاقبة، جرى خلالها تهميش منهجي لـ«الأقليات»، إثنياً ودينياً.

أظهر آبي أحمد رغبة في إنهاء التشرذم، ووضع حد للفرقة، ولكنه فشل وأدرك سريعاً ضرورة إيجاد مشروع يجتمع حوله الفرقاء. كان ظهور أحمد كرجل سلام آتٍ من «أرض الحروب» جذاباً للخارج، بينما كان الداخل الإثيوبي والظرف الإقليمي يدفعانه لاتخاذ قررات متطرفة؛ وفي محاولة منة لإنقاذ مسيرتة السياسية، وضع بلادة في مأزق لا يتضح له مخرج واضح، عبر الدفع بالتفاوض على مشروع سد النهضة نحو حافة الهاوية، والاصطدام مع المحيط.
بنى أحمد استراتيجيته الأولى على طمأنة أصحاب المصالح المشتركة معه باستحالة قيام مصر والسودان بعمل عدائي تجاه إثيوبيا


يرى الباحث المصري في الشأن الأفريقي مصطفى مندور، أن هناك دافعاً سياسياً ــ تاريخياً لتعنت آبي أحمد، وإصراره على استكمال مشروع سد النهضة، رغم المخاطر. ويشرح أن «الدراسات الصادرة عن السد، تقول إن الهدف منه توفير شبكة كهربائية، وتحقيق تنمية زراعية؛ وهي أهداف كان من السهل تحقيقها، عن طريق سد بسعة 14 أو 11 مليار متر مكعب، أو عن طريق بناء عشرات السدود الصغيرة»، مضيفاً أن «الأبحاث الدولية تحدثت عما يشكله سد النهضة من خطورة بسبب سعته الضخمة (75 مليار متر مكعب). وفي بلد مضطرب جغرافياً وسياسياً يمكن أن يتحول السد إلى خطر على محيطه».

بدوره، يؤكد الباحث السوداني في الشأن الإفريقي، وائل نصر الدين، أن «السد ليس منشأة اقتصادية فقط، بل عملية لإحداث تغير جيو ــ استراتيجي في المنطقة، إذ يرى آبي أحمد أن بإمكانه بناء مركز اقتصادي عالمي في القارة الأفريقية. كما يطمح لدور الزعامة الأفريقية، لذلك، يعد السد بسعته الحالية والملف التفاوضي لملئه وتشغيله، محاولة كسر وتركيع لمصر والسودان، وإحراز أهداف سياسية داخلية وخارجية».

يتّفق الباحثان على أن أفكار أحمد التي عبر عنّها من خلال كتابة عن سياسة المصالحة «مدمر»، يمكن تفسيرها وفق احتمالين؛ أولهما عدم نضجه السياسي وانفصاله عن الواقع الحالي والتاريخي، وبعده عن واقع تعيشه بلادة المنقسمة إثنياً، وثانيها، وهو الأقرب لاعتقاد الباحثين، أن أفكاره عن المصالحة ليست سوى خطاب استهلاكي موجّه للغرب فقط، من أجل حصد تأييد ودعم قد يحتاجه أيضاً في نزاعاته الداخلية».

ما يؤكده مندور، أن آبي أحمد نجح في بداية الأزمة في مسعاه «إذ بنى استراتيجيته في التعامل مع مصر والسودان بملف السد، على طمأنة أصحاب المصالح المشتركة معه باستحالة قيام مصر والسودان بعمل عدائي تجاه إثيوبيا، خصوصاً قبل اشتعال الثورة السودانية، إذ كان نظام البشير يؤيد إثيوبيا بشكل مطلق».


من جانب آخر، يرى نصر الدين، أن رئيس الوزراء الإثيوبي لا يريد تقديم تنازل لأحد «لأنه قام بإنشاء السدّ وأصبح أمراً واقعاً؛ كما أنه وقع اتفاق عام 2015 مع مصر، الذي يراه غير ملزم بتوضيح أي شيء في خطوات ملء وتشغيل السد، وعلى إثر ذلك قام بالملء الأول بشكل فردي. كما أنه يؤمن أن مصر والسودان لن يقدما على أي عمل عسكري، لأنه تلقى ضمانات، فهو منذ البداية جعل من مشروع السد فرصة لأغلب الدول والشركات العالمية الباحثة عن استثمار جديد مبشّر في أفريقيا».

في ظل التخبط والضعف السياسي في كل من مصر والسودان، اشتعل الداخل الإثيوبي نتيجة سياسات أبي أحمد القمعية ضد الإقاليم المعارضة. وفي الوقت الذي كانت تمر بة مصر بتحول قسري بين ثلاثة أنظمة، ظهر تَمَوُّجُ في قررات السودان السياسية، ودعماً غير مشروط لمشروع سد النهضة بعد وعد إثيوبي بتشارك المعلومات والمكاسب.

تزامن تعنّت أحمد في تفاوضه وبدء الملء الأول بشكل أحادي، بالإضافة إلى تنكّره لوعوده بمشاركة حليفة السوداني، مع انتفاضة شعبية أطاحت رأس النظام السوداني عمر البشير، ليبدأ فصلٌ جديدٌ في الصراع، حمل تقارباً بين القاهرة والخرطوم، وانقلاباً في موازين الصراع.

يبقي التقارب المصري ــ السوداني بعد الإطاحة بالبشير، نقطة محورية في هذا التحول، إذ كان لقرارات إثيوبيا و تعاطيها مع السودان، الفضل الأكبر في تكوين ذلك الحلف. يقول الباحث السوداني نصر الدين أن «ثلاثة أسباب رئيسية هي ما دفعت السودان لتحويل تحالفها، أولها: رفض إثيوبيا التوقيع على اتفاق ملزم لملئ وتشغيل السد، والملء الأول تسبب في الفيضانات التي أغرقت السودان. ثانيها: طموح الفريق عبد الفتاح البرهان ليصبح رئيس السودان، بعد دعم آبي أحمد للقوى المدنية والضغط على الاتحاد الأفريقي لإجبار الجيش السوداني على تقاسم السلطة مع المدنيين، ما دفع البرهان للتحالف مع مصر. ثالثها: ادعاء إثيوبيا بأن النيل الأزرق هو بحيرة أثيوبية، ورفضها لاتفاقية 1902».

خيار العسكرة ومصالح أحمد

يدرك أبي أحمد صعوبة الموقف المصري السوداني، بقدر إدراكه صعوبة موقفه، فالأمر تحوّل إلى لعبة عض أصابع، يرى أحمد فيها أن التنازل يعني الإطاحة به داخلياً، كما يدرك أن انتصاره يعني الإطاحة بالنظامين المصري والسوداني. تندر الخيارات التفاوضية أمام أبي أحمد، وتصطدم أمام الواقع، فمن أجل تحقيق مكسبٍ شخصيّ له، سيخسر الجميع.

رحلة تحول أبي أحمد من رجل سلام، لرئيس تقليدي، قد تدفع بلاده للمجهول. يقول مندور، إن آبي أحمد وجد ضالته السياسية في سد النهضة: «فالملء الثاني، هو المنفذ السياسي الوحيد داخلياً، لحشد مناصرين بعد أن تقلصت رقعة شعبيته، جراء سياسته الإثنية القمعية. ويحتاج أحمد قبل دخوله الانتخابات مشروعاً يوحّد الشعب الإثيوبي، فمن مصلحته أن يرى الإثيوبيون المياه محجوزة خلف السد، أو يظهر (أحمد) مهدداً (من الخارج) ليضمن البقاء في السلطة».

ويرى وائل نصر الدين أن «آبي أحمد يداعب مشاعر الشعب الإثيوبي، بذلك التعنت تجاه دولتي المصب فقضية ملء السد وتشغيله ينظر لها الداخل الإثيوبي، كانتصار على اتفاقات استعمارية، إذ يعتبر السد موضوع كرامة وطنية. كما أن المواطن الإثيوبي يشعر بالزهو لأن إثيوبيا تعد الدولة الأفريقية الوحيدة، التي لم تحتل».
من مصلحة آبي أحمد أن يرى الإثيوبيون المياه محجوزة خلف السد، أو يظهر مهدداً من الخارج ليضمن البقاء في السلطة


يأمل آبي أحمد أن تسعفه سياسته التفاوضية، لقلب الأزمة لصالحه، محاولاً اللعب على صعوبة الموقف الداخلي لكل من مصر والسودان.

يقول الباحث السوداني نصر الدين، أن أحمد «قد يحاول مراوغة الجانب المصري ــ السوداني، بوعود تقديم تنازلات بعد إجراء الانتخابات الإثيوبية، لكنه لا يدرك خطورة النيل على السودان ومصر تحديداً، فشرعية النظام هناك مرتبطة بالسيطرة على النيل، وتهديد المياه يعتبر إعلان حرب شاملة على النظام والشعب المصري. وهو ما قد يدفع القاهرة في لحظة الخطر، لتجاوز كل الحدود لإنهاء التهديد».

هنا يختلف رأي الباحث المصري مندور عمّا سبق، فيقول «إن أبي أحمد يدرك جدياً، الوضع المصري ــ السوداني، ويدفع دفعاً من أجل تطوير التحدي إلى العسكرة. إذ يبحث عن إنهاء أزمته السياسية وتوحيد شعبه في لحظة حدوث عمل عدائي تجاه إثيوبيا، أو بدء الملء الثاني.... إذ يرى نفسه منتصراً في كلتا الحالتين».

ويرى نصر الدين، في احتمال التفكك الإثيوبي حلاً أخيراً في يد مصر والسودان. فيقول إن «تصريحات الخارجية السودانية الأخيرة، بأن أرض السد أصبحت موضع نقاش، هو ما يخشاه آبي أحمد، وتحديداً احتمال تكرار سيناريو شمال قبرص. فإذا تم عمل عسكري مباشر ضد جسم السد أو تم الملء الثاني، سيكون ذلك في مصلحة أحمد. لكن إذا تم عمل عسكري للسيطرة على إقليم بني شنقول وتحويله إلى أرض متنازع عليها بالتحكيم الدولي، سيشعل باقي الأقاليم بداخل إثيوبيا».

ويؤكد الباحث السوداني على أن ذلك السيناريو، أي «احتلال إقليم السد» هو المطروح في خطة تعامل الجانب السوداني ــ المصري، كما سيتم «استغلال الوضع المحتقن في إقليم بني شنقول ورفض قادته لوجود السد على أرضه، لما سيجلبه من استيطان من أقاليم أخرى لأرضهم».