عاد، في الأيام الأخيرة، دير السلطان الواقع داخل أسوار مدينة القدس القديمة، والمملوك للكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، إلى الواجهة مرّة أخرى، عقب إقدام رهبان إثيوبيّين، مجدّداً، على رفع علم إثيوبي كبير فوق أبنيته، بالمخالفة لتفاهمات مصرية - إسرائيلية جرى التوصّل إليها مطلع العام الجاري، لتفادي تعكير صفْو الاحتفالات الدينية، بحسب مصادر كنسية مصرية. وعلى رغم قوّة حجّة الوثائق التاريخية لدى الكنيسة القبطية، وثبوت استدامة إدارتها للدير (منذ تشييد كنيسة القيامة في عام 335 حيث حضرت الكنيسة المصرية وقائع تدشينها، وحصلت، مثل بقيّة المذاهب المسيحية القديمة الأخرى، على مكان مخصّص لها في القدس) منذ نهاية القرن الـ7، عقب منح عبد الملك بن مروان صكوك ملكيّته لها، والتي ثبّتها لاحقاً في القرن الـ12 صلاح الدين الأيوبي، فإنّ رفض السلطات الإسرائيلية المتعاقبة تطبيق قرار المحكمة الإسرائيلية العليا في عام 1971 بقانونيّة مُلكيّة الكنيسة القبطية للدير، بل وحرصها على تعزيز الصلات مع إثيوبيا، على خلفية ارتباط عقائدي أسطوري في هذا السياق يرجع إلى قصة النبي سليمان وملكة سبأ، وتواصل النزاع الإثيوبي - المصري في ذلك الملفّ، يترك الباب مفتوحاً أمام التصعيد المتكرّر لهذه الأزمة، ويؤشّر إلى استمرارها كورقة جذب وضغط في سياسات إسرائيل تجاه كلّ من إثيوبيا ومصر.
الرواية المصرية
تتحدّث الرواية المصرية عن مبادرة الرهبان الإثيوبيّين، قبل نحو ثلاثة أعوام، إلى رفع علم إثيوبي كبير فوق مباني الدير الذي يشغل سطح كنيسة القيامة في القدس على مساحة 1800 متر مربع (قرب الجدار الغربي للمسجد الأقصى)، في محاولة منهم لكسب وضع داخله، على رغم حُكم المحكمة العليا النهائي والباتّ بمُلكية الكنيسة الأرثوذوكسية القبطية له (ضمن مجموعة من الممتلكات الكنسية داخل القدس القديمة). وعلى خلفية تكرار هذا التحرّك سنوياً، دعت القيادات الكنسية في القدس (بدعم من الكنيسة الأرمنية ذات الوجود التاريخي في المدينة) السلطات الإسرائيلية في نيسان الجاري إلى تطبيق حُكم المحكمة العليا، ولا سيّما أنّ ذلك لن يتطلّب سوى تكوين لجنة من المصريّين والإثيوبيين لتحديد كيفية تنفيذ هذا الحكم، حسب الأنبا أنطونيوس. وقد وقعت الأحداث الأخيرة (الاشتباكات بين الرهبان المصريين والإثيوبيين) على رغم استباق مسؤولين كنسيّين مصريين احتفالات «أحد السعف» بمقابلة المدير العام لشرطة القدس وعدد من مسؤولي الشرطة مطلع العام الجاري، لضمان أن تتمّ الصلوات بهدوء، وتلقّيهم تطمينات من الجانب الإسرائيلي بتلبية مطلبهم. وفي أعقاب الاشتباكات، أمرت الشرطة الإسرائيلية الإثيوبيين بإنزال العلم الذي رفعوه، وأبلغتهم في المقابل بأنها ستطلب من المصريين إزالة رسم العلم الرسمي لبلادهم. وبينما تبرز مطالَبة الرهبان الإثيوبيّين الشرطة بـ«تسوية المسألة»، في ما قد يؤشّر إلى وجود تطمينات إسرائيلية للجانب الإثيوبي، تعمل الكنيسة القبطية على وضع حصر دقيق لممتلكاتها في القدس (إضافة إلى عدد من المدن الأخرى في فلسطين المحتلّة) بهدف مواجهة أيّ جهود للاستيلاء عليها، ومن أبرزها دير السلطان (الذي يضمّ كنيسة الملاك ميخائيل ومذبح المخلوقات الحيّة الأربع)، ودير القديس جورج (قرب باب يافا في القدس القديمة وعلى الطريق المتّجه من القدس إلى أريحا)، وكنيسة الملكة هيلانة القبطية الأرثوذوكسية (وهي كنيسة أخرى غير كنيسة القديسة هيلانة المملوكة للأرمن ويقع فوقها دير السلطان)، وكلية سانت أنتوني القبطية (داخل مجمع البطريركية القبطية بالقدس).

تطلّعات الكنيسة الإثيوبية
ظلّت الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية تابعة إدارياً لكنيسة الإسكندرية الأمّ منذ القرن الرابع للميلاد حتى عام 1959، مع ملاحظة أنّ الأولى لم تكن في تلك السنوات المبكرة تمثّل مؤسسة واضحة المعالم بقدر ما كانت ذات صفة رمزية. ووقعت من حين إلى آخر محاولات من الجماعة الكنسية الإثيوبية لتغيير هذا الترتيب، ونجحت إحداها في عام 1929 في دفع كنيسة الإسكندرية إلى تعيين أربعة أساقفة إثيوبيين كمعاونين لـ«أبونا» المصري. ولاحقاً، تمّ تعيين أوّل أسقف إثيوبي رئيساً للكنيسة الإثيوبية، وهو «أبونا باسيل» في عام 1950 خلفاً لـ«أبونا» المصري. وعندما توجّه الإمبراطور الإثيوبي، هيلا سيلاسي، في زيارة تاريخية للقاهرة في حزيران 1959 زار خلالها قادة الكنيسة المصرية، كانت الكنيسة الإثيوبية قد نالت وضعاً مستقلّاً بالاتفاق على قيام البطريركية الإثيوبية، مع الاعتراف باستمرار السيادة الشرفية لكنيسة الإسكندرية. وعقب استقلال إريتريا (1993)، قدّمت طلباً للبابا شنودة الثالث للاستقلال الذاتي، وحصلت عليه في عام 1994، واعترفت به الكنيسة الإثيوبية في عام 1998.
تتبنّى كنيسة الإسكندرية رؤية خلاصتها أن مسألة فلسطين كانت ولا تزال حاضرة في ضميرها


وحضرت مسألة الدير في قلب هذه العلاقة الممتدّة في فترة متأخّرة نسبياً منها، ما يعزّز الرواية القبطية بشكل كامل. وبحسب بابا الإسكندرية الحالي، تواضروس الثاني، ويدعمه في ذلك التاريخ الحقيقي للكنيسة الإثيوبية وليس تاريخها القائم على لبس في ترجمة كلمة إثيوبي بالكتاب المقدّس إلى «أسْود» بشكل عام وليس «إثيوبياً»، فإنّ الرهبان الإثيوبيين أقاموا للمرّة الأولى في الدير ضيوفاً عليه في عام 1654، بعد تركهم لممتلكاتهم بسبب عجزهم عن دفع الضرائب للسلطات العثمانية حينذاك. واستمرّ الإثيوبيون في الدير في ضيافة الأقباط حتى عام 1820، عندما حاولوا الاستيلاء عليه. ودعَمهم في العقود الأخيرة وقوف الحكومة الإسرائيلية في صفّهم (خاصة بعد استيلاء قوات الشرطة الإسرائيلية على الدير قبل أكثر من خمسين عاماً في 25 نيسان 1970، وتسليمها إيّاه للرهبان الإثيوبيين فيما كانت مصر تخوض حرب الاستنزاف ضدّ إسرائيل). أمّا الروايات الإثيوبية فإنها تَذكر، من دون امتلاكها أيّ وثائق دالّة قبل منتصف القرن الـ19 تحديداً، أن «جميع الرهبان الإثيوبيين في الدير لقوا حتفهم في عام 1838 بسبب الطاعون»، وأن الرهبان الأقباط ظلّوا من حينها وحدهم في الدير بتصريح من البطريركية الأرمنية المعروفة بأنها «الحامية التقليدية للإثيوبيين والمصريين في القدس»، وبدأ الصراع الإثيوبي - القبطي على أحقية شغل الدير بعدها بثلاثة أعوام (1841)، مع وصول مجموعة من الرهبان الإثيوبيين إلى القدس. وتمكّن الإثيوبيون لاحقاً من شراء منازل وأراضٍ في القدس، إلى أن منحتهم السلطات العثمانية عام 1905 جزءاً في المدينة أُطلق عليه اسم «حارة الأحباش». ويمكن فهم هذه الخطوة - في سياقها التاريخي - على خلفية ما حظي به الإثيوبيون من دعم روسي وفرنسي في نزاعهم المتكرّر مع الأقباط منذ عام 1893، اتّساقاً مع نزوعهم لدعم «توفيق بك» (المتصرّف العثماني حينذاك لمدينة القدس الشريف والمتعاطف مع الأحباش ضدّ الأقباط المصريين).

خلاصة
تتبنّى كنيسة الإسكندرية رؤية خلاصتها أنّ مسألة فلسطين كانت ولا تزال حاضرة في ضميرها عبر جهود آبائها وبطاركتها. وعزّزها في ذلك دعم متكرّر من «مجلس كنائس الشرق الأوسط» الذي دان أكثر من مرّة انتهاك الشرطة الإسرائيلية «لجميع المعاهدات والاتفاقات ومقتضيات حقوق الإنسان والقانون الدولي على جميع المستويات» في ما يخصّ التعامل مع الرهبان المصريين في دير السلطان، مؤكداً أنّ الدير «أرض مصرية داخل مدينة القدس، وأن الدولة المصرية بذلت جهوداً كبيرة في هذا الملفّ»، بحسب تصريحات للبابا تواضروس الثاني. وتُناقض الرؤية الإسرائيلية هذا التصوّر، على نحو اتّضح في رفض السلطات الإسرائيلية المتكرّر قيام الكنيسة القبطية بأعمال ترميم للدير، بحجّة أنها من اختصاص الأولى. كما يمكن تفسير الموقف الإسرائيلي في سياق الرؤى اليهودية التقليدية للرابطة التاريخية مع إثيوبيا، كأوثق حليف أفريقي لإسرائيل على مدار العقود الماضية، والنهج التقليدي المرتبط بمأسسة تواريخ تقوم على الأساطير وتكريسها والتفسيرات الدينية المتوارثة، وتفيد في النهاية «الرواية اليهودية» لتاريخ القدس، وتعزّز - ضمن جهود أخرى - صورة الكنيسة الإثيوبية باعتبارها الكنيسة الأفريقية الأمّ، بالمخالفة لحقائق التاريخ.