الناظر إلى مقرّ أمانة القاهرة الجديدة لحزب «حُماة الوطن» في منطقة التجمّع الثالث بالقرب من العاصمة الإدارية، حيث تنتشر مجمّعات سكنية فاخرة وأسواق ومطاعم باهظة الأسعار ومشروعات الطُرق والبناء الحديثة، قد يتبادر إليه أنه أمام مقرّ أحد الأجهزة الأمنية الرفيعة: مبنى مصمَت المعالم، ذو سمْت غامض، مغلَقٌ بالكامل، تعكس نوافذه الزجاجية الداكنة الصورة خارجها، فيما تَصعب رؤية بابه. شكل غير مألوف لمقرّ حزب سياسي هو أحد كيانات أربعة - مع حزبَي «مستقبل وطن» و«الشعب الجمهوري» و«تنسيقية شباب الأحزاب» - تتصدّر ممارسة العمل السياسي العلَني اللصيق بالدولة وأجهزتها، والمستدام نسبياً، مع ما يَفترضه ذلك من تواصل قوي بالجماهير، على عكْس المعارضة الضعيفة أو الغائبة، وفقاً لدعاية الإدارة المصرية. وكانت الأجهزة السيادية شكّلت حزب «مستقبل وطن» عام 2014، من كوادر شابّة مثّلت عماد حمْلة الرئيس عبد الفتاح السيسي الانتخابية، ليضحي الحزب اليوم أكبر الكتل البرلمانية، حيث يتولّى، مع أقرانه، توفير الغطاء لسياسات السلطة، فيما حزب «الوفد»، أقدم الأحزاب التقليدية، مستبعَد مِثل الأخيرة من ممارسة العمل السياسي «الجماهيري» الذي تتيحه السلطة.
سؤال التمثيل السياسي والمصالح الاجتماعية
جَمعت الأحزاب المُوالية للسلطة عدداً من المنتمين السابقين إلى «الحزب الوطني»، ووجوهاً قَرابية وعشائرية معروفة، ورجال أعمال وتجّاراً كباراً على مستويات محلّية جَهَوية، ومؤيّدين سابقين للفريق أحمد شفيق، وقائمين بالعمل الأهلي الاجتماعي المحلّي غير المرتبط أو محدود الارتباط بالتمويل الأجنبي. وخلافاً لنموذج الحزب الذي مثّله حسني مبارك، لا تربط تلك الأحزاب، بكلّ قياداتها وأعضائها من العناصر العسكرية والأمنية السابقة، بالرئيس، منذ بداية عهده، علاقةٌ رسمية، كما أن الأخير لا يَحكم بصفته ممثِّلاً لها. وعلى رغم تَصدّرها عملاً يُوجّهه جهاز الدولة بوضوح، لا يربطها به، رسمياً، رابطٌ تنظيمي بعينه، فيما لا حضور بارزاً أو فاعلية لها في النقابات المهنية الأكبر، ذات العضوية الكثيفة والتأثير السياسي الغائب (عدا نقابة الأطبّاء التي تنجح أحياناً في انتزاع مكاسب مطلبية صغيرة)، ولا تنتمي إليها شخصيات عامّة أو مثقّفون أو رموز على المستوى الوطني. وإلى جانب «تنسيقية شباب الأحزاب» التي تضمّ شباب أحزاب «المعارضة الرسمية» وتُجري متابعات ميدانية وندوات وتُخاطب مجتمعات محلّية، ينصبّ نشاط الأحزاب المُشار إليها على توفير مساعدات معيشية موسمية، في صورة نقاط بَيع بأسعار مخفّضة، ومعونات اجتماعية للفقراء، إلى جانب ندوات روتينية ونشاطات لا تعكس قاعدة شعبية حقيقية، بقدْر ما تحاول السلطة التنفيذية من خلالها تخفيف آثار الأزمات، وحفظ حدّ من التواصل مع المجتمع، من خلال بعض ذوي النفوذ والوجاهة في البيئة الشعبية وفي بيئة الأعمال الحليفة للدولة.
تظلّ شروط «النقد الدولي» مكبّلاً طبيعياً لمشروع الدولة القوية


بناءً عليه، يمكن القول إن الرئيس يَحكم بلا حزب حاكم أو تنظيم سياسي شعبي، وإن أحزاب الأغلبية الجديدة وُلدت متطفّلة على «شعبيّة» له، قال إنه غامر بفقدانها لحلّ أزمات «تَسلّمها ولم يصنعها». وفي ظلّ تدنّي الدخول الحقيقية لغالبية الناس، وتكاثُر الأسئلة حول أولويات الإنفاق والاقتراض وإدارة الموازنة، تَبرز إشكاليات المصالح الاجتماعية التي تمثّلها الإدارة الحالية وسياساتها، وسط سُخط بدأ يتشكّل حتى لدى طيف من المجموعات والشرائح غير الشعبية، التي تَراجعت امتيازاتها الاقتصادية تدريجياً بفعل عوامل متنوّعة. عواملُ كان أوّلها تعويم الجنيه عام 2016، وأثره على الفقراء والشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، ثمّ التركّز الكبير للنشاط الاقتصادي في قطاع الإنشاءات والاستثمار العقاري بما خدم حصراً دائرة من كبار المستثمرين والمقاولين والمقاوِلين بالإسناد المباشر، وتركُّز الاستثمارات المحلّية والأجنبية في مشروعات خدمية واستهلاكية على حساب تلك الإنتاجية، من دون أن يجلب ذلك - مثلاً - طفرة للحصيلة الضريبية يمكن توجيهها نحو الإنفاق في الصحّة والتعليم (تُمثّل الضرائب بالفعل 75% من إيرادات الدولة)، أو فتْح وتثبيت استثمارات محلّية أو أجنبية مباشرة ضخمة تشغّل عدداً معتبَراً من أصحاب التعليم العالي، بعد تشغيل مشروعات الإنشاء نسبة عمالة يدوية. ومن ناحية أخرى، يعكس الإنفاق الهائل على البُنى التحتية حجم رهان كبير، جلّتْه مناشدة الرئيس رأس المال المحلّي استغلال الإطار الذي صنعتْه الدولة تسهيلاً للعمل والربح، في ما يؤشّر إلى أن النظام كان يتصوّر أن ضعف الاستثمارات سببه افتقاد بنية تحتية بعينها، ذات معايير مرتفعة وتوزيع جغرافي متناسب وموائم لتحقيق طفرة في قطاع اللوجستيات. وعلى رغم أن هذا التحوّل تَحقّق بالفعل، إلّا أنه بقي من دون عائد ملموس على الأغلبية، باستثناء المستفيدين من قطاع الإسكان الاجتماعي، أي نقْل العشوائيات إلى مساكن جديدة جاهزة، مع شبه ثبات للمتوسّط العام لجودة البنية التحتية في أغلب الأماكن المأهولة.
في الموازاة، عملت الدولة، بتنوّع مؤسّساتها، على التحكّم باستيراد وتوزيع وإنتاج عدد من السلع الاستراتيجية وفق تصوّرها، ما أدّى في المجال الغذائي مثلاً، إلى ظهور سلع أساسية بأسعار وجودة منخفضة، خارج آلية الدعم الغذائي التقليدية التي لم يَعُد لها أصلاً وزن يُذكر سوى في دعم الخبز، في ظلّ تقلُّص حصص المستفيدين من بقيّة السلع، استجابةً لشروط «صندوق النقد الدولي». لكن هذا التحكّم اصطدم، في مجالات أخرى، بشركات ومستورِدين وكبار مورّدين صاروا يواجهون استبعاداً نسبياً، عَمّقه ازدواج دور الدولة بصفتها منظِّماً تارة ومشغِّلاً تارة أخرى، من دون بنية تشريعية واحدة واضحة. وتَراكم هذا كلّه حتى إغلاقات الأعمال بسبب «كورونا»، ثمّ أزمة سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار المواد الخام والغذاء ومدخلات الإنتاج في السوق العالمي، ولاحقاً خروج أموال المستثمرين الأجانب في أدوات الدين الحكومي الذي كلّف الاقتصاد 55 مليار دولار في أربع سنوات، منها 20 ملياراً في أوّل 6 أشهر من العام الحالي، بفعل رفع الفيدرالي الأميركي نسبة الفائدة بدءاً من آذار. وفي مؤتمر صحافي عُقد - للمفارقة - في «الغرفة التجارية الأميركية» في القاهرة في حزيران، أقرّ وزير المالية المصري بأن الاعتماد على سندات وأذون الخزانة لا يبني اقتصاداً قوياً، وأنه «كان من الخطأ التعامل معها باعتبارها استثمارات حقيقية»، وهو ما حدث لثماني سنوات مضت.

سؤال الدَين والاستثمار الأجنبي
اعتمد الخطاب الاقتصادي للدولة المصرية شعاراً واحداً تعدّدت أوجهه لعقود، عنوانه جذْب الاستثمار الأجنبي بصفته الأفق الاستراتيجي للاقتصاد برمّته. وطالما اتّهم هذا الخطاب رأس المال المحلّي بالقصور إجمالاً، والطمع والعزوف عن الاستثمار في النشاط الإنتاجي، على رغم إقراره بأنه لا بنية صناعية معتبَرة، وأن الاقتصاد إجمالاً غير منتِج، وأن الاستثمار الأجنبي لا ينجذب على نحو إيجابي أو كافٍ، أو أنه ينجذب ثمّ يسارع بالخروج بأرباح ضخمة لا تتّسق مع مكاسب الدولة (ما يعمّق نزوح القيمة إلى الخارج). في المؤتمر الاقتصادي الأخير وقبْله، أجيبَ سؤال الإسراف في الإنشاءات والطُرق بالقول: نصنع البيئة المناسبة لمجيء رأس المال الأجنبي ومثيله المحلّي. لكن العقبة البارزة أمام ذلك أن حجم الدين الحالي لا يسمح بالانتظار، وقد ارتفع من 46 مليار دولار عام 2014 إلى 157 مليار دولار عام 2022، وأن الإنشاءات والبنية الأساسية المنجَزة لا تضمن بذاتها تحقيق هدف مِن مِثل تلقّي فيض من الاستثمارات المحلّية أو الأجنبية يشغّلها، خاصة في سياق أزمة اقتصادية عالمية، كما لا تضْمن سداد الديْن الذي تَقتطع خدمته نحو ثلث إيرادات الصادرات من السلع والخدمات.
هكذا، يظلّ توجيه الاستثمارات إلى «بؤر الجذب الجديدة»، المستهلِكة للكثير من التكلفة والوقت والعمل، غير مترجَم إلى قدرة مالية أعلى للدولة أمام مسؤولياتها الموضوعية، بل إن الأخيرة لا تزال تقع تحت الضغوط على رغم تحقيقها تخفُّفاً من الأعباء المالية، كان شرطاً لتلقّي قروض «صندوق النقد الدولي» سابقاً، وتبيع الآن حصصها من المال العام لشركات وصناديق إماراتية وسعودية على سبيل السداد، وفي سياق تلقّي قرض آخر من الصندوق، باعتبار تلك العملية استثماراً أجنبياً أيضاً، وكأن مُلكيات الدولة عبء بذاتها، ولو في قطاع الصناعة نفسه أو في مجالات مربحة وهامّة للإنتاج المحلّي (موبكو للأسمدة - أبوقير للأسمدة - الإسكندرية لتداول الحاويات)! يقول أحمد كوجك، نائب وزير المالية للسياسات المالية، في جلسة نقاش وثيقة سياسة ملكية الدولة، إن الهدف من تحديد مجالات تتخارج منها الدولة «تعظيم عائدات المصريين من أصولهم». على أن الخبير الاقتصادي، أحمد السيد النجار، يؤكد أن بعض الشركات محلّ التخارج تتمتّع بقدرة استرداد جيّدة (لرأس المال) خلال 6 إلى 8 سنوات، فيما يبلغ المتوسط في البورصات العالمية في أوقات الرواج 10 إلى 15 سنة، وفي أوقات الأزمة حوالى 20 سنة.
من جهة أخرى، وعلى رغم الترويج لمشروع ربط الجنيه بالذهب وعدد من العملات الأخرى بدلاً من الدولار، يستلزم خيار كهذا تحرّكات استراتيجية ذات علاقة بخريطة التجارة العالمية المعقّدة، والذهاب إلى خيارات سياسية دولية مختلفة عن الحالية، لا يُتصوَّر بداهة أن تُحبّذها منظومة الدولار، حيث يضع «النقد الدولي» اللمسات الأخيرة على القرض الجديد، بصفته مندوباً للغرب الجمعي يختصّ بالحلول المالية، ويصبّ في صالح نسق من جهات الإقراض والمصارف. ويقول الصندوق، في بيانه الصحافي، إن «شركاء مصر الدوليين والإقليميين سيلعبون دوراً حيوياً لتيسير تطبيق إصلاحات وسياسات السلطات هناك، مع انتظار 5 مليارات دولار من عدّة شركاء، منهم إقليميون، ما سيدعم موقف مصر الخارجي»، في ما يجلّي تكاملاً مع الاستحواذات الخليجية على الأصول المملوكة للدولة. ومن هنا، تظلّ شروط «النقد الدولي» مكبّلاً طبيعياً لمشروع الدولة القوية، والذي يحتاج، في ظلّ واقع مصر الحالي لناحية حجمها وغياب توطّن التكنولوجيا فيها، إلى نموذج مغاير للدولة الرشيقة المتحرِّرة من عبء التشغيل والإدارة ذات الجهاز قليل العدد، وهو ما طلبه الصندوق من قَبل وتَحقّق نسبياً. ستحرص أيّ دولة قوية - بطبيعة الحال - على امتلاك أداة إدارية ناجزة تسهّل حياة المواطن في كلّ المجالات، وضمان منظومة تأمين صحّي متطوّرة للجميع، وتوفير سلع ذات جودة مقبولة، بينما «النقد الدولي» يضغط على دولة مِن مِثل مصر لتسييل ما لديها بالفعل من إمكانات جزئية وتراكُم للقيمة والخبرات، بالمعنى المادّي. وهكذا، لن تُجاوز رؤيته لصحّة المصريين الأمنيات الطيّبة، مع توجيه وتشجيع على طرح أجزاء من قطاع الصحّة النظامي على القطاع الخاص، الذي «لا يأتي» عادةً كما أسلفنا، ولن يُلقي بالاً لهذه الخدمة المستحَقّة للإنسان، قدْر احتسابه للفوائد.