على رغم تراجيدية الأوضاع، والطرق غير الحميدة التي وُلدت عبرها الحكومة الجديدة، لا بدّ من إعطاء فرصة ما.المشاكل البيئية لا تقلّ تراجيدية عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لا بل يمكن الجزم أن القضايا البيئية الأساسية، في معظمها، دخلت مرحلة اللاعودة، تماماً كما عندما نقول إن انقراض أيّ نوع من الأنواع الحية لا يمكن تعويضه.
على رغم ذلك، لا بدّ من إعطاء فرصة لوزير البيئة الجديد دميانوس قطار. لن نعلق كثيراً على دمج البيئة بالتنمية الإدارية، إذ لطالما تحولت الصدف إلى وقائع، ولربما أصبح هذا الدمج مبرّراً منذ أوكل لوزارة التنمية الإدارية مهمة إدارة هبات من الاتحاد الأوروبي لمعالجة النفايات، بشكل استنسابي وتنفيعي (أيام الوزير كريم بقرادوني).
إذا غضّينا النظر عن ظروف اختيار الرجل - في اللحظات الأخيرة - لحقيبة البيئة، وهو اختيار ليس لصالحها ولا لصالحه، يمكن أن نتابع النقاش من لحظة فرض الأمر الواقع، مراعاة للوضع الكارثي الراهن. ومع أن من طالب بدمج الاقتصاد بالبيئة يمكن أن يجد في الوزير الجديد الرجل المناسب، إلا أن من طالب بهذا الدمج كان يعرف أنه يحتاج إلى استعدادات فلسفية وتقنية، وبنية فكرية متكاملة ليست متوفّرة بالطبع، بحسب علمنا. معروف عن الوزير قطار أنه منطقي وعميق في طروحاته، إلا أن ذلك قد لا يكون كافياً لمقاربة الملفات البيئية التاريخية، الشائكة والمعقدة، التي قد تحتاج إلى وقت طويل لفك عقدها، خصوصاً عندما تغلب عليها حالة الطوارئ من جهة والكثير من الخطورة التقنية من جهة أخرى. مع الإشارة إلى أن طرح دمج الاقتصاد بالبيئة لم يأتِ من خلفية تكاملية بينهما بالممارسة في الأساس، بل بالعكس، لأن التوجه الاقتصادي الخطي الذي سيطر منذ بداية الثورة الصناعية، كان مدمّراً بالنسبة إلى البيئة، بما أنتجه (عبر سياسات الاستخراج والتصنيع والإنتاج والاستهلاك) من ملوّثات طالت كلّ الأوساط البيئية وقضت على العديد من الأنواع وأنتجت الكثير من النفايات وهددت الموارد في ديمومتها… والمصالحة المطروحة بينهما لإنقاذ الكوكب، الآن، تحت عنوان «الاقتصاد الدائري»، باتت مفصلية وتحتاج لمن يتلقفها أو يتبناها، خصوصاً في بلد مستهلك كلبنان. من هذا المنطلق في الخيارات الاستراتيجية، يفترض تقييم دور وزير من نوع دميانوس قطار. ولن نتوقف عند أول تصريح له حول المحارق (طالما كان متحفظاً)، مع العلم أن فكرة حرق النفايات (وإن لتوليد الطاقة) باتت تصنّف من ضمن خيارات حرق الموارد التي تتحوّل بدورها إلى نادرة يوماً بعد يوم!
لن يكون سهلاً على أيّ وزير جديد للبيئة أن يتعامل مع أيّ من ملفاتها الحارقة. ليس بسبب تعقيدات هذه الملفات فقط، بل بسبب صعوبة إيجاد فريق عمل داخل وزارة البيئة نفسها أيضاً. فهذه الوزارة تشكو من عطب إداري بنيوي مدمر بات تاريخياً ومستعصياً بقدر ما تأجّل حلّه. وهو عدم تفاهم الوزراء مع المدير العام من جهة، والحال غير السوية بين هذا الأخير مع الكثير من المسؤولين والموظفين في الوزارة (الذين فتحوا دكاكين على حسابهم) وخارجها، إضافة إلى قضايا الفساد العلمي والمادي التي لا تخلو منها إدارة في لبنان.
أما الملفات الأساسية التي ستفرض على الوزير فور وصوله، ففي طليعتها تمديد خطة الطوارئ لأكثر من نصف نفايات لبنان في العاصمة بيروت وضواحيها والقسم الأكبر من جبل لبنان. إذ انتهت القدرة الاستيعابية لمطمري برج حمود والجديدة منذ أشهر، وليس من بديل مقترح عند سلفه غير التوسيع وإعادة فتح مطمر الناعمة لتخفيف الضغط عن الكوستا برافا الذي سيصل إلى نهاية سعته الكاملة باكراً وسريعاً. إضافة إلى همّ مراجعة كل السياسات والاستراتيجيات والقوانين ذات الصلة التي تم إقرارها على عجل وزغل، وملف المقالع والكسارات وشركات الترابة التي فشل أسلافه في إعادة ضبطها وتنظيمها. وقد بقي آخر تعديل مقترح من الوزير السابق على المخطط التوجيهي محلّ نزاع ولم يُقرّ رسمياً، إلى ضياع الرؤية وغلبة إصحاب الخيارات الاستثمارية في هذا القطاع على أصحاب الرؤى الاستراتيجية والبيئية. وقد قيل إن بين أسباب التنازع على وزارة البيئة، هذه المرة، هو هذا الملف بالذات لارتباطه باستثمارات جديدة غير مستحبة بيئياً في شركات الإسمنت، وتمرير صفقات المحارق الخطرة التي تعثرت مؤخراً، لأسباب تمويلية، أكثر من أي سبب آخر مثل تعطل البلد مع عدم تصريف الأعمال.
الملفات الشائكة في وزارة البيئة كثيرة جداً، وهي كانت تنتظر وزيراً بيئياً ثورياً أكثر من وزير اقتصادي أو حزبي من أحزاب السلطة الفاشلة. وزير يأتي في مرحلة حساسة ينهار فيها كلّ شيء ويتم التأسيس لمرحلة جديدة باعتماد خيارات تاريخية جديدة في الوقت نفسه. ينطبق هذا الكلام على الملفات المذكورة، أو على ملفات جديدة نسبياً كملف التنقيب عن الغاز والنفط وكيفية الربط مع سياسات الطاقة والمناخ، وملفات إدارة الموارد وفي طليعتها المياه التي كانت تحتاج إلى مقاربة مختلفة وتدخلات مختلفة من قبل وزارة البيئة، تتحفظ على مبدأ وقف جريان المياه بالسدود المكشوفة والمكلفة وغير الضرورية، واقتراح سياسات توفيرية بديلة ووقف السرقة والهدر... ناهيك عن ضرورة إعادة النظر في قانون الصيد البري المتخلّف، والتراجع عن بدع فتح مواسم الصيد وحماية الطيور المتبقية والحياة البرية والتنوع البيولوجي بشكل عام، والتوقف عن مسايرة الصيادين وتجار أسلحة الصيد وذخيرتها والنوادي وشركات التأمين...إلخ إضافة إلى ملفات أخرى كثيرة، لم يستطع أيّ وزير تسلّم هذه الحقيبة أن يطلع عليها جيداً قبل أن تنتهي ولايته!
أمام الوزير الاقتصادي إذاً مهمة شبه مستحيلة في البيئة في حال أراد أن يجمع بين متناقضات. فكيف إذا استسهل الأمر، مثل معظم أسلافه، وأراد أن يستثمر في الموجود وينتهي بتمديد خطط الطوارئ وتمديد المهل غير القانونية ومسايرة مشاريع باقي الوزارات العشوائية والصناعيين والتجار الملوثين... ويبقي على وزارة البيئة بوصفها أكبر جمعية بيئية في لبنان؟!