بحسب المنطق السائد الذي يروّج له، والمتسرب من مناقشات الحكومة الجديدة وبيانها الوزاري، فإنه لا شيء يشجع على التفاؤل بأننا سنكون أمام معالجات جدية وجوهرية في الملفات كافة، لا سيما في الملف البيئي. وبالتالي، من المتوقع أن يفرض منطق الطوارئ إيقاعه، كما في كل مرة.المؤشر الأبرز على أننا لن نستطيع أن نعبر الى منطق الدولة ولا الى الخيارات الاستراتيجية، هو الوهم الاقتصادي الذي يقول بحاجتنا الى العملة الصعبة بالدولار الأميركي والى التمويل الخارجي والقروض للخروج من أزماتنا، في كل القطاعات تقريباً! مع أن الظرف الحالي، الكارثي نفسه، الناجم أساساً عن تلك النظرة الى الاقتصاد، يمكن أن يبرر المنطق المعاكس أيضاً، أي بما أننا أمام ظروف اقتصادية صعبة، علينا أن لا نلجأ الى البحث عن التمويل من جديد، بل الى البحث عن التوفير. فنحن لا نحتاج الى المزيد من الاستدانة لشراء تقنيات مكلفة لحل مشكلة النفايات، على سبيل المثال، بل بحاجة الى سياسات تخفّف من حجم النفايات، فتحدّ من الزيادة في الاستهلاك أولاً، وتحضّ على الفرز وإعادة التدوير والتصنيع ثانياً.
حتى اللحظات الاخيرة، كان وزير البيئة السابق فادي جريصاتي لا يزال مصراً على أن ينهي ولايته بحملة للتوعية حول الفرز من المصدر! ورغم إبلاغه أن الأهم في معالجة مشكلة النفايات، بشكل استراتيجي ومستدام، أن يتم التركيز على مبدأ التخفيف أولاً، يبدو أنه كان من الصعب عليه تمرير هذه الفكرة المركزية في ظل طغيان رأي العدد الأكبر من «جمعيات الكرتون» بأن الفرز هو الحل، إلا إذا اعتبرنا أن خطط الفرز لم تكن سوى مقدمة لتلميع صورة الطروحات الاساسية الواردة في خارطة الطريق التي أعدّتها الوزارة، بتمديد العمل بخطة الطوارئ على الشاطئ مع طرح إعادة فتح مطمر الناعمة، واستكمال الإعداد للمرحلة الثانية التي سيعتمد فيها خيار المحارق!
لطالما قيل إن المشكلة ليست بهذه البساطة، وقد وقعنا في أكثر من أزمة ولم نتعلم أن الحلول الجزئية وخطط الطوارئ مكلفة جداً على البيئة والاقتصاد... وقد حان الوقت للتفكير بشكل استراتيجي ومستدام. ولم تنجح الحكومات المتعاقبة حتى الآن (ولا وزراء البيئة) في اقتراح استراتيجيات تحدد المبادئ والأولويات والقوانين والخطط المترجمة لها.
ولأننا الآن أمام حكومة اختصاصيين وإنقاذ، كما يتم الادعاء، يفترض أن نكون في أمسّ الحاجة إلى أن نبدأ بـ«الأولويات؛ التي نختارها على أسس استراتيجية.
الفرز يؤكد مسؤولية الفرد، في حين أن المشكلة هي في النظام الذي ينتج من دون ضوابط ويشجع على الاستهلاك من دون حدود، بينما مبدأ التخفيف يؤكد مسؤولية الدولة في توجيه السلوك، سواء للمصنّع أم للمستورد أم للتاجر… ومن ثم الفرد. والدولة وحدها المخولة وضع نظام ضرائبي مدروس، ليس هدفه - كما هي الحال دائماً - جباية الضرائب من الناس، بل تغيير السلوك الإنتاجي والتجاري والاستهلاكي، وإعادة الاعتبار إلى السعر الحقيقي للسلع، أي الذي يحتسب الأكلاف الحقيقية للإنتاج، مع الأخذ بمدى التأثير على ديمومة الموارد أثناء الاستخراج وكيفية التصنيع والاستهلاك وأثرهما، ومصير السلع بعد أن تتحول الى نفايات وكلفة معالجتها.
كما أن تطبيق مبدأ التخفيف، مع ما يتطلبه من «إعادة التسعير»، أو فرض ضريبة ما على السلع، لا يعني أن الهدف من تحصيل الضريبة هو «تمويل كلفة المعالجة»، وهي مادة (في القانون) وضعها المستثمرون في القطاع من جماعة المحارق أو المطامر أو المعامل على أنواعها، بالتعاون مع بعض العاملين في الوزارات المعنية، لضمان استرداد كلفة الاستثمار في هذا القطاع وكلفة الإنشاء والتشغيل والمراقبة والصيانة وتحقيق الأرباح المضمونة.
صحيح أن الفرز المنزلي أو الفردي يشكل جزءاً من المعالجة من ضمن سلسلة تدابير معينة، إلا أن وظيفة المروّجين له وحده، محلياً ودولياً، لا تخلو من بدع ليبرالية احتيالية، تهدف الى خلق شعور شكلي بالارتياح للتخفيف من الشعور بالذنب، ويوهم الفرد بأنه يسهم في الحلول على المستوى المحلي والكوني ربما! مع أن المشاكل العالمية فعلاً، مثل زيادة حجم النفايات وتغير المناخ، كانت تتطلب تعاوناً على مستوى الدول وتغيير سياسات كبرى في القطاعات كافة وفي بنية اقتصاد السوق، لا أحد يريد أن يلتفت اليها، منعاً للمسّ بقدسية اقتصاد السوق! وهذا ما يفسر انتشار فكرة «المسؤولية الاجتماعية للشركات» وتقديم بعض التبرعات لحملات فولكلورية تحت شعار «الفرز من المصدر»، بدل اللجوء إلى تغيير جذري وحقيقي ومكلف في السياسات الاقتصادية المسيطرة والمشكو منها!
في المحصلة، يمكن القول إن الحلول على المستويات الفردية تصبح ممكنة وضرورية، عندما يعمل النظام ككل لمصلحة الجماعة والبيئة وبشكل مستدام. بهذا المعنى، يمكن للجماعة أن تكون في العائلة والبناية والحي والنطاق البلدي والوطني… والإنسانية جمعاء.
ومن هذه المنطلقات والخلفيات، يفترض إعادة النظر في السياسات والقوانين، لا سيما قانون النفايات الذي أقرّ على عجل في الحكومة السابقة، بهدف تبرير اللجوء الى المحارق المكلفة وإيجاد تمويل كبير ومضمون وآمن لها وأرباح أكيدة للمستثمرين.
فهل هذا المنطق لا يزال قائماً بعد الثورة ومع الحكومة الجديدة؟ أم أن تغييراً ما سيحصل في المنطلقات الأساسية والرؤية البيئية والاقتصادية... فيتم تبنّي منطق التخفيف والتوفير بدل منطق الدين والاستثمار والتحصيل؟!
ألا يفترض بعد كل ما حصل، والأزمة المالية الخطيرة التي وقعنا فيها، أن نتوقف عن الاستدانة من أجل مشاريع مكلفة جداً كالمحارق والسدود؟