بعد أكثر من ربع قرن على استحداثها، لا تزال وزارة البيئة غير جاهزة للعمل ضمن أطر استراتيجية وقانونية محددة. وآخر الأدلة على ذلك، القرار «التجريبي» الأخير بتحويل 200 طن من النفايات يومياً كانت تنقل الى مطمر الجديدة، الى معمل غسطا (كسروان) الذي أنشئ عام 2017 وتوقف عن العمل عام 2018. الجديد هذه المرة، في أزمة هذا الملف المتكررة، أن وزير البيئة هو نفسه من يتولّى حقيبة التنمية الادارية التي كانت تدير بعض مشاريع معالجة النفايات مع البلديات، خارج بيروت وجبل لبنان، بتمويل معظمه من الاتحاد الأوروبي. وكم كان مفيداً لو اطّلع وزير البيئة والتنمية الادارية دميانوس قطار على بعض النماذج من «اللامركزية» ومدى نجاحها أو فشلها والأسباب والعوائق... إلخ، قبل اتخاذ قرار باعتماد معمل غسطا لمعالجة قسم من نفايات قضاء كسروان (بين 150 و200) الذي يراوح حجم نفاياته المنزلية الصلبة بين 350 و400 طن يومياً، بحسب تقديرات المتعهدين المنفوخة إجمالا.في المفاوضات التي كُلّف بها مجلس الإنماء والإعمار من قبل الحكومة (قرار رقم 10 بتاريخ 5/5/202020)، طالب أصحاب المعمل بتقاضي 57 دولاراً للطن، فرزاً وتخميراً وتحويلاً الى وقود بديل rdf وطمراً لما يتبقّى، على أن تكون مدة العقد سبع سنوات (الاتجاه في مجلس الوزراء ليكون خمس سنوات). كما طلبوا سلفة بقيمة 800 ألف دولار (تفيد المعلومات بأن مجلس الوزراء وافق على 200 ألف دولار)، فيما لا يزال النقاش يدور حول احتساب سعر صرف الدولار مقابل الليرة. إلا أن المطلعين على الملف يؤكدون أن هناك مشاكل كثيرة تتعلق بالبلديات وبمشاريع عديدة متضاربة، تشكل عائقاً أمام التنفيذ. كما أن هناك ملاحظات عديدة حول المعمل نفسه، بما لا يجعله نموذجياً في المعالجة اللامركزية، كما يعتقد وزير البيئة المتحمّس للموضوع، إذ إن كلفة الطن في المعامل من الحجم نفسه التي تشرف عليها وزارة التنمية الادارية لا تتعدى 40 دولاراً للفرز والتسبيخ والطمر. أما تحويل بعض النفايات الى وقود بديل، فيكون في العادة من دون مقابل، ويستفيد صاحب المعمل من بيعه، شأنه شأن المواد القابلة لإعادة التصنيع بعد الفرز. أضف الى ذلك أن المعمل يعاني من مشاكل، مثل أمكنة التخمير غير المحمية من ترسبات عصارة النفايات، والمطمر غير المجهز بعازل وفق المعايير الصارمة لهذه العمليات. كما لم يجر البحث تماماً في قواعد المعالجة، وهل سيكون الفرز في المعمل أم في المصدر، وما هو حجم المواد التي ستبقى للطمر (مع تفضيل أن تكون هناك ضوابط وحوافز لتكون بأقل قدر ممكن). أما المشكلة الأكبر فهي في تحويل بعض النفايات الى طاقة (rdf). صحيح أن قانون النفايات تضمّن التفكك الحراري، وهذه التقنية ضمن بنوده، إلا أن ذلك جاء ضمن «تهريبة» للإسراع في تقديم مشاريع لمؤتمر «سيدر» لإنشاء محارق مكلفة، ومن دون موافقة القسم الاكبر من المجتمع المدني البيئي المتابع لهذا الملف، والمتخوف من اعتماد تقنيات الحرق، إن في محارق للنفايات أو في أفران شركات الاسمنت وبعض المعامل الكبرى كبديل من الوقود. وإذا كان صحيحاً أن بعض «مافيات الحرق» نجحت في استمالة بعض «الخوارج» في المجتمع المدني لمصلحة اعتماد الـrdf، إلا أن هؤلاء طُردوا من التحالفات البيئية الكبرى لهذا السبب تحديداً، منذ مدة بعيدة، ولم تعد لديهم صفة تمثيلية. والسؤال الأبرز: كيف تقبل وزارة البيئة اعتماد تقنيات كهذه قبل أن تحدّد المواصفات والمقاييس لهذه المواد والمراسيم التنظيمية لاعتمادها، وقبل أن تبرر اعتماد المحارق، من ضمن استراتيجية شفافة تعتمد مبادئ بيئية معلنة تمت مناقشتها والتوافق حولها على أوسع نطاق.
وكان مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 19/5/2020 قد ناقش هذا الموضوع، واطّلع على تقرير مجلس الإنماء والإعمار الذي كشف على معمل غسطا وقدّم تقريراً إيجابياً بتقنياته، طارحاً ثلاثة خيارات: إما اعتماد اللامركزية وتطبيق العقد الذي كان بين الشركة وبلدية غسطا، والذي فشل لعدم تمكن البلديات من الدفع، أو ضم المعمل الى المشاريع التي تديرها وزارة التنمية الادارية، أو التعاقد مع الشركة المشغلة على غرار العقود الموقعة مع المشغلين الحاليين في بيروت وجبل لبنان. الحكومة، في جلستها الاخيرة، لم تهتم إلا بالسعر الذي طلبت التفاوض لتخفيضه، وبالسلفة وبمدة العقد وسعر الصرف… إلا أن المشكلة بقيت عند وزارة البيئة التي اعتبرت نفسها «ملحوقة» من اللحظة الاولى، وأن عليها التعامل مع المشكلة بالذهنية الطارئة نفسها التي حكمت هذا الملف منذ نهاية الحرب الاهلية، بدل أن تسعى لربط الحل المؤقت بخطط استراتيجية مستدامة، كان يفترض أن تُعِدّها منذ زمن بعيد.
هذا الملف سيكون على جدول اجتماع لجنة البيئة النيابية الإثنين، بناء على دعوة من رئيسها النائب مروان حمادة، والتي سيعرض فيها وزير البيئة رؤيته للحل المرحلي والاستراتيجي، في حين أظهرت وزارة البيئة بعض الضعف والاستسلام للحالة الطارئة، ولم تطلب تقييم المرحلة السابقة بأكلافها ومخاطرها الكبيرة، ولا بمراجعة الاستراتيجية وقانون العام 2018، بدل طلب مراجعة خارطة الطريق التي وضعها الوزير السابق، تسهيلاً لإنشاء المحارق في المرحلة المقبلة واعتماد الكثير من المطامر في المناطق كافة.
فهل ستضيّع فرصة جديدة لكسر الاحتكارات في هذا القطاع، ولوضع خطة مركزية قوية تقسم الأدوار اللامركزية للبلديات والاتحادات، بعد تحديد المبادئ والتوجهات العامة والأولويات والأهداف والتقنيات المقبولة التي يفترض تشجيعها ودعمها وتلك الخطرة والمكلفة التي يفترض استبعادها... لكي لا يفهم أن اللامركزية قد تعني أن تحل كل بلدية مشكلتها بنفسها وعلى طريقتها... والتي قد تنتهي بفوضى عارمة، تضاف الى الفوضى المالية والادارية والسياسية التي وقعنا فيها بسبب سوء الادارة نفسها؟!