إذا كانت التسوية الجديدة التي تُطبخ لتأليف الحكومة تتضمّن عدم منح وزارات «أساسية»، كالطاقة والمال والخارجية والداخلية، لأحزاب السلطة الفاشلة، فهل يعني ذلك أن وزارات «صغيرة»، كالبيئة مثلاً، ستُترك لهؤلاء، وخصوصاً أنه ليست لدى أي من هذه الأحزاب برامج استراتيجية للقضايا والقطاعات الأساسية (والبيئة بينها). وهذا، بالمناسبة، من النواقص القاتلة لديها وسبب فشلها ووصولنا إلى ما وصلنا إليه من إفلاس كامل على كل المستويات.المقترح الآن أن يأتي إلى الوزارات أصحاب اختصاص او ما يُسمى تكنوقراط، فماذا يعني ذلك؟ ليس التخصّص كلمة مناسبة للعمل السياسي عموماً، والعمل في زمن الأزمات خصوصاً. فالمتخصّص هو العارف والخبير بأمر واحد محدد دون سواه، في حين أن المطلوب عقل شمولي لمقاربة شؤون الحكم والإدارة العامة. مع الإشارة إلى أن قواعد الإدارة في القطاع العام ليست هي نفسها في القطاع الخاص، إلا إذا كان المطلوب هو الخصخصة الكاملة! لذلك قيل إن العمل السياسي الفاعل لا يستوي إلا مع عمل الأحزاب. وكان يفترض، بمجرد إعطاء حقيبة ما لحزب ما، معرفة توجه هذا الحزب مسبقاً وكيف سيتعامل مع ملفات هذه الوزارة. وهذا لم يكن متوافراً لدى أحزاب السلطة والتيارات السياسية المسيطرة ما بعد الطائف. وبعد التدخل الفرنسي، أو الدولي، قد يكون المخيّب أكثر اختيار أحد ممن يُسمون بـ«المجتمع المدني» للمشاركة في الحكومة، بوصفهم أصحاب التخصّصات الأصغر، إذ ما الذي يمكن أن ننتظره من هؤلاء الذين يعملون بفردية قاتلة وعقيمة حالت دون توليد أحزاب كبيرة جديدة وبديلة عن الأحزاب الفاشلة المشكوّ منها؟
انطلاقاً من كل ذلك، لا يمكن المراهنة على أن الإنقاذ سيكون على أيدي أي حكومة تأتي على عجل. فلا أحد يستطيع أن يشكل خشبة خلاص غير المعارضة الهادفة والمنظّمة والثوار الحقيقيين… ولكن ليس بالسرعة المتوقّعة طبعاً. الموضوع يحتاج إلى وقت لإنضاج أحزاب جديدة تملك برامج شاملة… وهي، في أثناء عملها ونضالها وتمويلها الذاتي، تفرز قياداتها. لذلك يفترض المطالبة بتأخير موعد الانتخابات النيابية وليس بتبكيره، ريثما نتحضّر لحياة سياسية جديدة وتأسيس أحزاب جديدة مع برامجها ومرشحيها.
في انتظار ذلك، ما الذي يمكن انتظاره من «المرحلة الفرنسية» ومن برنامج عمل الحكومة الذي وضعه الرئيس الفرنسي؟
«البيان الوزاري» الذي وضعته باريس لم يولِ اهتماماً لقضايا البيئة، واقتصر في هذا الجانب على الطاقة لناحية معامل الإنتاج، حسب رأي الشركات الفرنسية على ما يبدو، من دون أي إشارة إلى ضرورة تغيير استراتيجيات الطاقة والمياه. كما أن لا شيء في البرنامج الفرنسي عن السدود أو معامل النفايات المكلفة، ولا تصوّر لإدارة الردميات التي تحتوي على مواد خطرة والناجمة عن دمار انفجار المرفأ. وفُهم من بعض الخبراء، الفرنسيين والأوروبيين، أن الاهتمام منصبّ على المرفأ ووظيفته في المرحلة المقبلة أكثر من أي أمر آخر! مع التخوف من أن يطغى الجانب الاقتصادي والاستثماري للتدخل الخارجي على ما سواه، وأن يكون ذلك على حساب البيئة، تماماً كما كانت مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية!
لا نعرف لأي نوع من «أصحاب الاختصاص» ستُسند حقيبة البيئة، علماً بأن هناك من يلمّح إلى إمكانية دمج الوزارات «الصغيرة» إذا ما تم الاتفاق على حكومة مصغرة، رغم أن مشاكل البيئة الخطيرة في لبنان تتطلّب «تكبير» الوزارة لا «إلحاقها» بوزارة أخرى، إلا إذا كان التوجه هو لوضع هذه المشاكل في «الثلاجة»، كما كان الأمر في الحكومة السابقة التي تجنّب وزير البيئة فيها، دميانوس قطار، البتّ في أي ملف أساسي وحساس كالنفايات والمقالع والكسارات وشركات الترابة وغيرها. فلجأ إلى أسهل «الحلول»: التمديد لكل شيء تقريباً. هكذا مدّد شهراً لعمل شركات الترابة وللمقالع والكسارات غير القانونية، وثلاثة أشهر لمطمر الجديدة (انتهت) والخطة الطارئة، وتمديد العمل بسد بسري وزيادة الاستدانة غير الضرورية… مع التردد في تنشيط الملفات التي تدرّ أموالاً على الخزينة في ما لو نُظّم عمل المقالع والمرامل والكسارات.
ثمة سؤال أساسي هنا: ما هو «التخصّص» الذي سيحمله الوزير العتيد الذي ستُسند إليه وزارة البيئة في ظل هذه الملفات المتنوعة، ناهيك بملفات أخرى لا تقل خطورة مثل تقييم آثار التنقيب عن النفط والغاز أو التراجع الدراماتيكي المتوقع في نوعية السلع الاستهلاكية ونوعية الحياة والهواء والماء والغذاء مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة؟ صحيح أن مجرد تغيير الجهات السياسية نفسها التي تمسك، منذ مدة طويلة، بحقائب الطاقة والمياه والبيئة والصناعة وغيرها، يمكن أن يخفّف من أثقال مشاريعهم المتعالية على البيئة والمفلسة للخزينة العامة. إلا أن ما تحتاج إليه هذه الحقيبة وزير «ثوري»، يقلب المقاييس ويضع حداً للفوضى داخل وزارته أولاً… وداخل مشاريع باقي الوزارات ثانياً. فمن سيأتي بهذا «الثوري» في زمن التسويات الجاهزة؟



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا