تُستخدم عبارة المكعب الأبيض (white cube) للإشارة إلى تصميم معظم مساحات العرض الفنية المعاصرة، حيث تُعرض الأعمال الفنية، سواء اللوحات أو المنحوتات أو غيرها من الأعمال المادية، في صالة عرض بيضاء مجردة. في حين أن بياض الحجرات وماهيتها المجردة قد يحققان غرض العرض الفني وييسّران عملية تقديمه لرواد المعارض، إلا أن البياض الثقيل والجاثم لا يلين أو يتشتت مع تنوع الأعمال الفنية المعروضة وقوة تأثيرها. ولذلك، تثير رحلات زيارة المعارض الفنية المكثفة خلال وقت قصير شعوراً غريباً بالإنهاك والتخييب. لطالما رجحت أن هذا الشعور بالفقد سببه المرور المتفحص للأعمال الفنية المُراوحة معانيها وشدة تأثيرها على المنحيين الذهني والنفسي. وقد تكون هنالك صحة في ذلك؛ إلا أن البياض المتفشي في جميع حجر العرض والتي نعتاد على وجودها كتحصيل حاصل في سبيل عرض الأعمال الفنية قد يكون سبباً آخر لهذا الشعور بالخمول الذهني بعد زيارات متعددة.
«وحدة» لماري الكعدي (مواد مختلفة على كانفاس - 2018)

يدرس الناقد الفني الإيرلندي براين أولدوهتري موضوع المكعب الأبيض وتأثيره من خلال تشبيهات نافذة عديدة. فمفهوم المكعب الأبيض، الذي بدأ بالرواج في أول القرن العشرين، يعبر بالنسبة إليه عن المكعب بوصفه عاملاً فعالاً (عذراً على الترجمة الطنانة) في«صندقة الفضاء أو فضأنة الصندوق»، أي أن المكعب الأبيض كمكان تعرض فيه الأعمال الفنية والأفكار المنوطة بها يتم توظيفه لمحو الحدود بين الداخل والخارج. إلا أن بنية المكعب الأبيض، حسب أولدوهتري هي بنية نخبوية تقصي الكثير وتحول الأعمال الفنية إلى منتجات نفيسة نادرة، في ممارسة لنوع من الفوقية الفكرية التي تحاكي بنية السوق التجاري في المجتمعات الرأسمالية وذلك بسبب الطريقة التي تعرض بها الأعمال الفنية في فضاء مجرد تماماً وغير متصل بمكان أو زمان. تباعاً، تضحي حيادية المكعب الأبيض محض توهم. فالمكعب الأبيض، بالنسبة إلى الكاتب هو الحائط الذي نقذف نحوه مخاوفنا وهو المكان الذي يقصي الفنان أو الفنانة عن المجتمع بسبب طبيعته النخبوية عوضاً عن كونه مكاناً محايداً تماماً.
لذلك، فإن تجربة الوجود في المكعب الأبيض توصف، غالباً، كتجربة مكان إقصائي غير مرحب أو صادق. ربما يجدر بنا التساؤل هنا عن طبيعة العلاقة، إن وجدت، بين هيئة المكعب الأبيض وخاصية الشفافية. فالحديث عن شفافية التجربة الفنية (أو تجربة الفنان أو الفنانة الحياتية) والعملية الفنية والمنتجات الفنية التي تصدر عنها هو حديث مهم وفعال في سياق الفضاء الفني، إذ إن الفن بحد ذاته لطالما اعتُبر أداة لتسليط الضوء على مواضع الانتهاكات والظلم والبشاعة وهو بسبب ذلك، يجب أن يكون شافّاً. إلا أن بياض المكعب الأبيض الذي يحجب بدلاً من أن يشفّ، وذلك لكون اللون الأبيض مقروناً بعمليات التطهير والمحو والإزالة، يدفعنا للتساؤل عما إن كان المكعب الأبيض (كمكان مادي وسياق فكري) ناجعاً فعلاً لعرض الأعمال الفنية.
يتخذ المكعب الأبيض وجوداً عضوياً أيضاً في كتابات أولدوهتري الذي يصف حيطان المكعب الأبيض بالغشاء الذي ييسر عملية التبادل الجمالية والفكرية، الأمر الذي يخلق نوعاً من الهالة الأسطورية للمعرض كمكان، فيصبح المكعب الأبيض لا مكاني أو مكاناً سحرياً لا يوجد في مكان محدد. يقول الباحث في الفن والتاريخ الفني، بوريس جرويس، إن وجود العمل الفني في المعرض كمثل مريض طريح الفراش وذلك لعدم قدرة العمل الفني بحد ذاته على التمظهر وإثبات وجوده. ذلك لأن العمل الفني «يفتقد الحيوية والطاقة والصحة لذلك. في أصله، يبدو أن العمل الفني مريض وغير قادر. لرؤية العمل الفني، يجب على الرواد أن يساقوا إليه كما يساق الزوار إلى سرير مريض من قبل العاملين في المستشفى». يثير تشبيه جرويس مقاربة بين العمل الفني كشيء عي والمكعب الأبيض كمكان إعياء وذلك بسبب وصف أولدوهتري للمكعب الأبيض على أنه مستشفى في كتاباته.
مع المكوث المطول في حجرنا التي غُصبنا على البقاء فيها لفترات تتعدى، بإجحاف، حاجتنا إلى المكوث، بسبب الحجر الملزم، فإن المكعب الأبيض يتخذ معانيَ وأبعاداً جديدة. وذلك أن أماكن سكننا تصبح المكعب الأبيض ونصبح نحن، بالرغم منا، غرض العرض أو العمل الفني بحد ذاته. إلا أن الفرق يكمن هنا، في أنه على العكس من الأعمال الفنية التي يأتي الرواد للاطّلاع عليها، فإننا كأعمال فنية تندمل ببطء، لا نُرى ولا يزورنا رواد، أثناء الحجر، للاطلاع على الرسائل التي نريد توصيلها أو للتأثر بماهيتنا والتجارب التي نمت عنا. على العكس، فإننا، كأعمال فنية عضوية نشأت بسبب البقاء المسهب في مكعباتنا البيضاء، لا نحبذ أن نُرى أثناء عمليات العزل والعزلة المكثفة. بذلك، يُجرد المكعب الأبيض من هالته التي تقصينا وتحول بين تفاعلنا الصادق مع الأعمال الفنية المعروضة كمُنتجات نفيسة عصية على الامتلاك. على العكس، في تحولنا نحن إلى أعمال فنية عضوية معروضة في ملايين المكعبات البيضاء البيتية حول العالم، يندمل بياض المكعب وقدرته على الطرد المبطن والتهميش. لذا، نصبح نحن، رواده، أكثر جرأة على مجابهة خاصيته الإقصائية والتغلب على عدم الانتماء إلى المكان الذي يمثله المكان الأبيض نفسه.