عُمِّر المرحاض خارج البيت، ما يبعد عنه حوالي ثلاثة أمتار. ولم يكن أمام جيراننا إلا خيار اجتياز هذه المسافة لقضاء الحاجة، يقفزون ملتصقين بالجدران وقت المطر لأن المرحاض لا ينتظر رغبتهم بالذهاب إليه. في هذه المسافة المشوّشة بين خارج البيت وداخله المعمّر من الألفة (؟)، يستوي أحد معاني المكان، ولو أن عراءها من شأنه أن يثير تناقضاً صارخاً مع الانطباع الوتدي الراسخ الذي قد تمنحه لفظة «المكان».
لا يأتي هذا الممر كنقيض للمكان، أي الفضاء الفالت الذي وصفه هنري لوفيبفر كـ «تجريدات فارغة» مفارقاً بينه وبين المكان الذي تُغرقه المعاني الثقافيّة، بل يكتسب معناه من الحركة المكرّرة ذهاباً وإياباً نحو المرحاض. يتجاوز كونه بقعة فالتة من سياق البيت وديكوره، ويبقى في الوقت نفسه، أكثر حياديّة من أن يكون مجالاً آمناً بذاته. ما يضبط هذه البقعة هو أنها كأي طريق تصل بين مكانين، تبقى محكومة بالنظرة اللاهثة إلى الوصول وبالنظرة الشاخصة إلى الخلف لتفحّص المسافة التي تمّ اجتيازها.

«مهرب» لجوني سمعان (أكريليك على كانفاس - 2020)

فرضٌ تتلقّاه القدمان وتحفظه عن عماء، فتتبدّد الطريق كتجربة، متّخذة طابع النقطة المقصودة أينما وجدت، والتي قد تكون مقدّسة كما هو حال الوصول لدى الحجّاج الدينيين. وإن كانت غاية الطرقات الشاقّة بالنسبة إلى الحجّاج في المسيرات الكبرى هي اختبار لحالة الاغتراب في شكلها الحياتي، قبل الاغتراب النهائي أي الموت، إلا أن الاغتراب يتبخّر كليّاً مع بلوغهم الوجهة المقدّسة كمكافأة على كلّ معاناتهم. هذه حال كلّ الماشين المتيقّنين من وجهاتهم، حتى في شوارع المدن المعاصرة. طريقهم نفق، لا يؤذن سوى بمسار أُحادي، من دون إمكانية الانزياح يميناً أو شمالاً، وبحثاً وهرباً كما لدى أولئك الذين تسقط الوجهة عن إدراكهم. يتبدّل معنى الطريق بالنسبة إلى هؤلاء في كلّ مرّة، نزولاً عند دعساتهم التي تتخذ من الإسفلت موطناً لغربة مديدة. إذا استطاع الرأس أن يهرب في حالات السهو أو الإعياء من سؤال: أين طريقي؟، كبحث متواصل عن مكان، عن انتماء، عن وجه، أو ذات، فلن تفلت القدمين من لجاجة السؤال إيّاه. اختصر محمد الماغوط هذا التيه بأنه حذاء يخفي حيرته بعلامة استفهام «أنا حذاء، أين طريقي؟». لن نخفي انجرارنا وراء إغواء هذا التشبيه الذي قلّص فيه الشاعر وجوده إلى حذاء دائخ بلا وجهة. سنتّخذ منه نموذجاً لهذا المقال، على أن يصبح الحذاء قدمين تكتشفان احتمالات الطرقات التي لا تؤدّي إلى مطرح، وتمنحانها معانيها.

طرقات حائرة
يوزّع السائر خطواته بدعسات عمياء لا تقشع وجهتها. لا بدّ أنه أضاع انتباهه ومعه السبب الذي دفعه إلى خوض الطريق التي تبدو بذاتها مصيراً متحرّكاً. بدلاً منها، يلوح سؤال الحذاء كآرمة معلّقة على كلّ المفترقات والزوايا، فهو مشروع دائماً، أكان السائل (أو القدمان) مستلقياً ببلادة على أريكة أو يهرول على الكورنيش. كل ما تحتاج إليه الطريق هو ساقان، يقول الشاعر الفرنسي آرثر رامبو، الذي تشكّل قدماه نموذجاً للأقدام الهاربة من كل السبل. كلّما بلغ مدينة أو غرفة، هرب منها مشياً أو ركضاً، إلى أن قبع أخيراً داخل غرفة مستشفى حيث بُتِرَت إحدى ساقيه. لا تقاس مسافات الأقدام الحائرة بعدد الخطوات، لأنها إذا قيست بها ستكون هي السبّاقة، فالحيرة تسرف في رمي خطواتها هباء من دون اللهاث وراء الوصول. خطوة تستقرّ، وخطوة تتخلّى... ستولّد الطرقات وتبدّد نفسها إلى ما لا نهاية. لن يصل المشّاء الحائر إطلاقاً، ولن يتوقّف إلا حين تُدمى ساقاه. طرقاته دوائر ودوّامات، وإن كانت تتمدّد في خط مستقيم. يتقدّم إما هرباً أو ضجراً، وإما بحثاً عمّا ظنّ أنه ضاع منه خلسة، ربّما على طريق أخرى. مهما اختلفت غايته، فإن وقع مشيته هو القلق. قلق ممسوك بإحكام من أفق مشرّعة تؤكّد استحالة العثور على مكان واحد، وتحثّه في الوقت نفسه، على استعادة مطارح كان قد خرج منها حانقاً. هل يحتمل هذا المشّاء بلوغ ما يبحث عنه؟ لا تسأل ساقاه إلى أين هما منقادتان، بل توقظهما أسئلة أكثر بدائية: كيف وصلنا إلى منتصف الطريق؟ عمَّ كنا نبحث؟ منذ متى وأنتما تمشيان؟ ممَّ تهربان؟ لا إجابة شافية سوى الدوّار أمام كلّ احتمالات الطرق. لن يخفق هذا المشّاء في إيجاد مخارج ونوافذ تمحو الممر المستقيم بين نقطتين، فقوام مشيته التخلّي. تخلٍّ عن كلّ نقطة وصول محتملة، وبعثرة فردية لاستقامة شبكة علاقات تسيّر الماشين كدمى عمياء، من خلال الإعلانات واللافتات، والساعات التي تفرض عليهم احتساب الخطوات. وفي تخليه عن كلّ الأطر المدينية، الماديّة والرمزية، يهدر المشّاء خطواته، كذريعة للتشويش على الحضور الذاتي، إذ يتحرّر خلال المشي من كلّ الأفعال التي عليه القيام بها. إنه يمشي فحسب. انفلاش الطرقات واحتملالتها، يلبّي رغبته في التخلّص من كل أثقال الهُوية الذاتية التي ستتقلّص، خلال ساعات المشي، إلى قدمين تروحان جيئة وذهاباً. «أثناء المشي لن يكون السائر أحداً على الإطلاق»، يصف فريديريك غرو حرية هذا الفعل (في كتابه «فلسفة المشي»)، لن يكون المشّاء أحداً، ولن يكون هناك رفيق يتوجّه إليه في حديث أو يتلفظ اسمه، قدماه هما الدليل الوحيد على وجود الطريق.

طرقات ساكنة
حين تخور الأقدام، بعد حيرة طويلة، تفلت الطرقات الفرعيّة من تعنّت السباق، خصوصاً عندما لا يكون اللجوء إليها ساعياً إلى اختصار مسافة الطرقات الرئيسيّة، بل من أجل اختبار تيه آخر. تمنح الزواريب مجالاً للتفلّت من الطرقات المزدحمة، على قاعدة أن المشّاء يخرج من بيته بحثاً عن داخل آخر. «سأتوارى في هذا الطريق» تقول الأقدام الراجفة، بدعسات لا يكاد يسمع وقعها، «بيننا وبين الأقدام العارفة هوّة لا تلتئم، حتى لو قطعنا مئات الأمتار بخطوات متعجّلة. لقد طُردنا من السباق منذ البداية». بإمكان الأقدام الخائرة إذاً أن تبرّر غيابها بسيل من الأعذار التي لن يهتمّ أحد لسماعها، إلا أنها لن تأتي على ذكر السبب الرئيسي الذي جعلها تسلك الطرقات المستوحدة، وهو أن صافرة الانطلاق لم تتبادر إليها. لم يكن هناك أحد منذ البداية. لهذا لا تعدو مشيتها كونها تمريناً للقدمين بعد سبات طويل، وأحياناً، في مراحل متقدّمة، كتصريف لرغبة القدمين بالقفز. محاطة بالصمت، وبخلاء شاسع، وبكائنات معطّلة، كبيوت مهجورة، وواجهات محالّ مقفلة، تتمسّك هذه الأقدام بالطرقات الفرعية تمسّكها بحماية المساحات الداخلية. تمحو الحدود ما بين الخارج الذي يتطلّبه فعل المشي، وبين سكون الغرف المغلقة أو سراديب الراحة. وبانصرافها بعيداً، تستسلم هذه الأقدام إلى واحدة من صفات المشي التي تكون غالباً عصيّة على التقبّل بالنسبة إلى الأقدام الواثقة: العبور والتبخّر إن جاز التعبير. إنها أكثر تصالحاً مع هذه السمة من الأقدام العارفة بوجهتها. فلوصف حالة الذين يجنحون مطرقين عن سيل الماشين الآخرين: يُقال ذهب بعيداً في عزلته أو جنونه أي ذهب بعيداً في طريقه، لكنه ذهاب مهدّد بالاختفاء إلى غير رجعة، إذ تتمدّد طرقاته كملاءة فوق هاويات مستترة تهدّد بابتلاع كلّ خطوة.

طرقات الرؤية
«ستأخذنا الريح معها»، تقول بعض الأقدام، مستكينة إلى الخفّة المطلقة والدهشة التي تفوت في العادة الأقدام العارفة. لا هي مستسلمة ولا هي وجلة. تستعين هذه الأقدام بالريح وبالعينين. غير أن من يستسلم إلى عينيه، يتخلّى ضمنياً عن قدميه. في فيلم «ستأخذنا الريح معها» لعباس كياروستامي، يخوض البطل رحلة إلى قرية نائية من أجل تصوير طقوس دفن إحدى المعمّرات الموشكة على الموت. هكذا تجري أحداث الفيلم. انتظار على الطريق لموت امرأة لن تموت في النهاية. تحدث الحياة في ترقّب أجل لا يأتي. هناك كائنات هامشيّة تستيقظ وتبدّل مسار الرحلة ما بين الحياة والموت. دبيب خافت لسلحفاة تقطع الصمت القاتل وتعكّر ضجر الانتظار. كأنها تشقّ نافذة لدرب أخرى ما كان ليهتدي إليها المخرج/ الممثّل لو لم يتعثّر بالسلحفاة التي تبدو مجازاً لرحلة سيزيفيّة أخرى. مثلما وجد بطل كياروستامي أثراً للحياة (أو ثقلها) في السلحفاة، تصطاد العينان من الطرقات ما يلائمهما وما يفزعهما ويعميهما. تتصدّيان وحيدتين لكلّ الصور والإعلانات والنظرات التي تخترق الفضاء المشترك كدبابيس. لهذا، فالغبش هو لعاب لراحة العينين حين تبلغان منتصف الطريق. حين أمشي، أنا مجرّد نظرة، يوجز فريديريك غرو واحدة من حالات المشي، التي تسبب احتكاك عينَي المشّاء في الطبيعة مع الأبديات الأولى مثل أبديّة الحجارة، وأبديات السهول، كحقائق على شاكلة «لقد تجاوزتني إلى أجل غير مسمّى، وستستمرّ من بعدي». نتحدّث عن السائرين في المناطق الطبيعية. يمنحهم الوقت المكدّس مجالاً للاسترسال بالتحديق في مظاهر طبيعية صامتة، تلوح، في المقابل، كومضات من شبابيك سيّاراتنا وباصاتنا على الطرقات السريعة باتجاه بيروت وخروجاً منها نحو أريافنا. تبقى هذه مجرّد لمحات متقطّعة سرعان ما تطيح بها جثث الكلاب والثعالب والحيوانات النافقة على حواف الطريق. فهذه تصبح عدّادات افتراضية للمسافة نحو العاصمة التي تهدّدد تبدلاتها المشّائين بحتفهم. بيروت التي اختصرت حضورها بين عبارتي «كان هنا»، و«اختفى»، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية، يبقى بحرها وحده وفي قلبه صخرة الروشة ما يطمئننا بدوام بقائه.
عودة إلى «ستأخذنا الريح معها»، فإن طقوس الموت التي فاتت عينَي المخرج في الفيلم، هي طقس راسخ على طرقات المدينة، يلوح في تبدّلاتها العمرانية السريعة، ويطال بين وقت وآخر، جثث مواطنيها الملقاة على الرصيف، كما حين قرّر رجل أن يعيق حركة الماشين برصاصة وجّهها إلى رأسه ذات صباح. يُدعى الرجل علي الهق، هكذا كتب على لافتة «استمرّت من بعده» معلّقة على جانب الطريق، حتى حين سُحبت جثّته.

طرقات الرأس
ننتقل من جثث الموتى إلى جثث حيّة تستلقي في الشوارع في وضح النهار. لا تقاس كل الطرقات بالخطوات، بل بمنامات النائمين. هؤلاء يطرقون الإسفلت بأنفاسهم، وهم يتلاعبون ويبعثرون أطر الطريق، وفواصلها ما بين الليل والنهار، بين المشي والاستلقاء، وما بين المؤقّت والمستقرّ. تتشكّل الحدود وفق يوري لوتمان (في مؤلّفه: «سيمياء الكون») من الالتحام أو الاصطدام بين قوّتين: بين الخارج والداخل، وأحياناً كما في الترجمة، حين تصبح لغة خارجيّة لغة داخليّة أي لغتنا الخاصّة. يكفي أن تتواجه أقدام مستقيمة مع أخرى متمدّدة لكي تتحوّل فيها الطريق إلى منطقة حدوديّة تشهد اشتباكاً عنيفاً، إن لم يكن رمزياً لكان حتماً دموياً، بين موكب الماشين المسرعين إلى دواماتهم، وما بين جمود كائنات بشرية جعلها وقت القعود الطويل، تشكّ في أنها كانت تملك القدرة على المشي في ما مضى. يقطع المشرّدون النيام الطريق في وضح النهار، يحدّون من مساراتها بساقين عاجزتين عن الحركة، أو متخليتين عنها. يملكون هذه القدرة ولو أن فرشهم ملقاة على المؤقّت من الطريق. أين يسير هؤلاء؟ إنهم مثل كلّ الساهين عن الحياة، يكتفون بالطرقات الممتدّة داخل الرأس حيث يمكنهم مواصلة المشي بأقدام هامدة لن يعرقلها سؤال «أين طريقي؟».