يبدو المكتبُ بوصفه مكاناً تتكثّفُ فيه السّلطة، مفهوماً ضارباً في القِدَم، ومرتبطاً بمدى عُمقِ الدّولة وأجهزتِها وجيوش الموظّفين القادرة على تطويعهم في روتينها اليومي. بيد أنّ تطوّرَ بُنية الدّولة في العصر الحديث وولادة شكل عالميّ يبني على المركزيّة التي تجمع أطرافاً شتّى في إطار واحد، هو ما أنشأ مفهوم البيروقراطية بصيغته الحديثة، حيثُ تُمسكُ شبكة من المكاتب والموظّفين بآلاف الأوراق الثبوتيّة التي تحكمُ حياة النّاس اليوميّة. لذا إنّ المُهمّة التنظيميّة السّطحيّة من وراء الإدارة سرعانَ ما تحوّلت إلى عمليّة إحصائية كبرى، تنامَت في أحشائها أدواتُ الضّبط والمراقبة. لقد ودّعَ العالم الجديد المُنظِّمين القُدامى من كَهنة وسَحرة ورجال دين واستبدلَهُم بنوعٍ آخر من الهرميّة، كما تذرّرتِ الوظائف الاجتماعيّة المتقادمة لتحلّ مكانها بُنى أصلب وأقوى تتوازى والشّرط الاقتصادي الذي خلقها. المكتبُ في تعريفهِ المُباشر مُجرّدُ مكانٍ، والحديثُ عنه هو حديثٌ عن الجسد واللّغة بالضَّرورة. قد لا يقولُ الكلامُ هنا أيّ جديد، بحكم ما للإنسان من أثرٍ وتأثيرٍ في فضائه المُحيط. وكونه كلاماً قد عمِلت على تأكيده وتبنّيه حركاتٌ سياسيّة واجتماعية على مستوى العالم، في العقود الأخيرة. إلّا أنّ ما يُميّز المكان وحضورَه في الزمن الحداثي خاصّة، ودوناً عن باقي الأزمنة الماضية، هو تداخل هذه الحدود الثلاثة، إذ لم تعد متعالية ولا مُجرّدة. إنّما باتَت ضمن المعاش اليومي، وأداةً سُلطويّة مباشرة تحكمُ الوجود، كأن تقول مثلاً موظّف يعني مكتب، كلا المُفردتين تعني سلطةً تملكُ خصوصيّةً مُعيّنةً. من هُنا يُمكنُ الحديث عن الفضاء العُمراني للمدينة المُعاصرة، والتساؤل عن أيّ القنوات المعرفيّة التي تُصمِّمه، أليستِ المعرفة هنا تكشفُ عن مدى «الهندسة السياسيّة» لا للمكان فحسب بل لأجساد الجمهور أيضاً؟ ولو فتّشنا خلف الدّور الوظيفي للعمران الحديث وعلاقته بالإنتاج، فسنجد أنّه يعكسُ أوّلاً لغة القائمين عليه الخاصّة، بمعنى أنّنا عُدنا إلى المعرفة.
«حضور الغياب» لأماني حسن (فحم على ورق - 2020)

يتحدّثُ المُفكّرُ الرّاحل هادي العلوي في كتابِه «مدارات صوفيّة»، عن برنامج مشاعي لوزارة أسماها وزارة التّنظيم المشاعي في العراق (وصَفَ كثيرون البرنامجَ والفكرةَ بالمُتخيَّلة والحالمة). في إحدى بنود هذا البرنامج يُشارُ إلى ضرورة بناء مساكنَ للفلاحين وسكّان الأهوار من الطّابوق (الآجر) كونه المادة الأوّلية المتيسّرة التي تُنتَج محليّاً. كم تبدو هذه الفكرة حزينة اليوم، إنّها تعيشُ في كيانٍ لغوي مُختلفٍ تماماً عن مُدنِ الكامباوندات المُسوَّرة والمحميّة بفِرق الأمن الخاصّة! مدنٌ تنحتُها المكاتب الهندسيّة ذاتُ الواجهات الزّجاجية العملاقة، وتخترقُها الأبراج التي لا تتورّع عن تحطيم ذاكرة المكان وتراثيّته، ويحكمُها مهندسون غايةُ المهارة عندهم أن يُلبّوا حاجات المُطوّرين العقاريين والشّركات القابضة.
بالانتقال من الفضاءات المدينيّة الواسعة، إلى فضاءات ذات حدود خاصّة لا نجدُ الحالَ أفضل. فإذا كانَ النّبذ وتشتيت أي تنظيم جمعي هو غاية ما تنصبُّ عليه الهندسة السياسيّة في العام، فإنّ العزلة والإحباط والتّنافس الزائف، هو ما نعثر عليه في الحيّز الخاص. هناكَ، الأبراج تخترق القيمة الجماليّة للمدينة وتتطاول على ما دونها، وهنا يتفتّتُ الموظفون والعمّال داخل بيوتٍ تكرّسُ العزلة والقطيعة الاجتماعيّة، ومكاتب تُوهم بمجد الفردانيّة. يتربّعُ المُوظّفُ الصّالح فوق عرش الفردانيّة وقيمِها، ويقبض - من خلال قوانين الهَرميّة - على مفاتيح السّلطة ويتحكّمُ بها. عليهِ فالمكتبُ يجمعُ كلَّ هذه الأدوات ويُركّزها بيدي الموظف، لا لشيء إنّما ليُغذّي وهماً كبيراً من أوهام النّزعة الفردانيّة، المُتمثّل بإدارة الأدوات الماديّة مباشرةً. السّرُّ في الأُعطية إذاً، إنّه المكان وسحرُه هو الذي خلقَ المكانَة. بمعنى أنّ المادّة تنتجُ المعنى لا العكس، ولو أنّ الفرقَ اللّغوي بينهما ليس أكثر من حرفٍ واحد (تاء مربوطة).
لكن في المقابل، أيّ أثرٍ يُمكن أنْ يُخلّفُه مكانٌ تتكثّفُ فيه السلطة على مَن لا يحوزُها، ماذا عن وضعيّة المراجعين فهؤلاء ليسوا أسياد المكان. ألا يوجدُ ارتباطٌ حيويٌّ بين حضور السّلطة الطّاغي والمحصورة في مكانٍ واحد وبين الأثر النّفسي لمن يتحرّك داخل هذا الفضاء. لقد أثارَ هالبفاكس (1877- 1945) في كتابه «الذّاكرة الجمعيّة» نقداً قويّاً لفكرة الفضاء الاجتماعي ومدى تأثيره في الذات البشرية، عندما فكّكَ موضوع التناغم أو التوافق الفيزيائي بين طابع الأمكنة والأشخاص، حيثُ لكلّ أداةٍ نلقاها أو نحتكّ بها ضمن مجمل الأشياء، تذكرنا بطريقة عيش تختلفُ عن الأُخرى. إنّهُ بتشريحه لهذا التكوين، يُشرِّحُ وضعيّةً اجتماعيّةً تتداخلُ فيها عوامل نفسية مثل القلق والخضوع والشعور بالسّيادة أو افتقاد الأمان. ومن هنا حلّت تعديلات هندسيّة جوانيّة منها المكتب المفتوح، ولو أنّه اتّضحَ بعد فترة أنّ الأمر مُتعلّق بالإنتاجيّة وحسب. وكما أنّ لقراءة هذا الفضاء مقاربة تتحرّك من الدّاخل إلى الخارج، يمكنُ الذهاب عكساً أيضاً. أو لِنقل أن نحتكمَ للشوارع، فهي إطار مرجعيّ خارجيّ تمكنُ من خلالها معاينة غابة من الإشارات، بمجرّد الوقوف عند الزّوايا. إذ يصعبُ المشي اليوم في فضاءات المدينة العامّة، دون أن ننقادَ إلى الخاص منها انقيادَنا إلى السّلعة بالضّبط. قديماً كانَ تجمُّع السّلع والمِهن يخلقُ سوقاً واحداً يوحّدُه المُنتَج، ولا زالت بعض المناطق التقليديّة في المدن محتفظةً باسمها نسبةً لحرفة ما. هذا الأمر من غير المألوف أن يتكرّرَ ثانيةً عبر التّاريخ، وفضاءات العمل انطلاقاً من السّوق التّقليدية، مروراً بالمكتب الفكرة الأكثر انضباطاً واحترافيّة، كلا النّموذجين تقادَما وتتهدّدُهما نماذج يُمكنُ وصفُها بـ«السّائلة». وإذا كانَ نمطُ العمارة الحديثة يقومُ على طمس الملامح التراثية وعدم الاكتراث بما فيها، فإنّه على مستوى آخر، بدأتِ الجدرانُ الثّخينة تتداعى مُحطّمةً في طريقها الكثير من القِيَم والتّخصّصات، وفجأةً وجدت جيوش البيروقراطيّة البليدة نفسَها مدفوعةً خارجَ المكان/ة في آن واحد، ومُضطّرّة للعودة إلى المنازل، إنّه الواقع الذي تعزّز مع انفجارِ نمط العمل عن بُعد، وموجات الجائحة المُتعاقبة.
تُنبِئُ الوضعيّة الرّاهنة بسيادة المفهوم «السّائل» عن الأمكنة، وتعويمه نموذجاً حصريّاً لفضاءات العمل عالميّاً. قد يبدو الأمر حلّاً ناجعاً للتخلُّص من تلك الهرميّة الوظيفيّة، والتناقضات النّفسيّة التي فرضتها البيروقراطيّة على عموم العاملين. ورغمَ نخبويّته وعدم شموله الفئات الدّنيا من العَمالَة، المُلزمة بالتّقيّد المكاني، بيد أنّه لا يَعدُ إلّا بمزيدٍ من السّلبِ الوظيفي وتحشيد أكبر للعاطلين عن العَمل في جهة، والتّمرير للطرف الآخر، بطريقةٍ طبقيّة سَلِسة، الكثير من وعدِ المكانة.