تتوسّع هالة القدس في أدبيات الغريبين عنها؛ هؤلاء الذين يبغون استحواذها. قدّم الشاعر البريطاني المستشرق وليام بليك القدس كحلم غربي بالعزلة والسكينة، فيما تمجّد الأدبيات الصهيونية وجودها في فضاء فلسطين التاريخية قبل وبعد استعمارها، لذا نجد أن فلسطين تُطرح كمساحة خيالية للرجل الأبيض وأحلام يقظته. إلا أن الأرض ترفض أن تكون كذلك واقعيّاً وشعريّاً.
إن الحرائق التي اندلعت في القدس أخيراً، وأتت على ما يقارب 25 ألف دونم من الغابات التي زرعت بعد النكبة من قِبل المحتلّ الصهيوني كشفت عن المدرجات الزراعية الفلسطينية التي سبقت وصول المستعمر بمئات السنين. فهذه الحرائق التي نشبت بسبب أشجار الصنوبر الدخيلة على أرض فلسطين، لم تعرّي إخفاق المستعمر في تطويع الطبيعة الفلسطينية فحسب، بل أيضاً إخفاقه في التغلب على غربته في مكان ليس له. وهي غربة لا يجرؤ على النبس بها، فهو قد ترك عالمه الأبيض ليأتي إلى طبيعة تطرده بشتى الطرق. لذلك، يحاول المستعمر تحويل المنظر الطبيعي الفلسطيني إلى صورة مشوّهة عن أرياف أوروبا.

(رسم: ميليسا شلهوب)

بسبب شعوره بأن الطبيعة نفسها تطرده، يلجأ الدخيل على فلسطين إلى تعنيف الطبيعة كرد فعل وكمحاولة لتطويع الفضاء الطبيعي ليأخذ هيئة نوستالجية منسلخة تماماً عن جغرافية الأرض. مثلاً، أقامت «مؤسسة عبد المحسن القطان» في رام الله، في أيلول (سبتمبر) 2020 مشروع فني معرفي بعنوان «معرض الهيمنة على الحشائش» حول 33 بذرة فلسطينية حاول الانتداب البريطاني، عام 1940، اقتلاعها تماماً من الطبيعة الفلسطينية لكونها بذور «ضارة». فقائمة البذور التي ضمت الخرفيش ونبتة النفل والهالوك، كانت تعتبر ضارة للحبوب والبقوليات على الرغم من مكانتها في الثقافة الفلسطينية بسبب فوائدها العلاجية. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه النباتات كانت بمثابة علامات على فلسطينية الفضاء والتي حاول الانتداب البريطاني محوها.

في مقال له بعنوان «لماذا تخشى إسرائيل الزعتر والعكوب؟»، يكتب ربيع إغبارية عن تتبع إسرائيل المستوطنة منهج منع قطف بعض المحاصيل الفلسطينية زعماً بأنها نباتات «محمية». إلا أن هدفها من ذلك هو تجويع الاقتصاد والجسد الفلسطينيين بمنع زارعي الأرض وفالحيها الأصليين، من قطف نباتهم. وذلك بهدف استحواذ السلطة الصهيونية على هذه النباتات كي تعتبر مصدرها الأكبر. قانون العنزة السوداء، والذي يذكره إغبارية في مقاله هو مثال آخر على تعنيف الطبيعة وجهلها من قبل المستوطن الدخيل. فهذا القانون السوريالي القاتم يمنع تربية الماعز الأسود بسبب «أضراره البيئية». إن أوضح الأمثلة على العنف ضد الطبيعة الفلسطينية هو اقتلاع أشجار الزيتون على نحو مسعور لدى المستعمر. فأشجار الزيتون هي من أقدم المعالم الطبيعية الفلسطينية، وتعتبر شواهد على تاريخها الغني والحافل قبل قدوم الشتات الأوروبي إليها، إذ إن معظم هذه الأشجار أقدم من دولة الاستعمار المستوطنة. لذا، يسعى الدخيل إلى اقتلاع الشواهد الطبيعية لمعرفتها بعدم انتمائه للمكان.

تسعى هذه المحاولات إلى تحويل المنظر العام والطبيعي لفلسطين إلى صورة باهتة لأوروبا المرمسنة أيضاً في الفضاء البيتي من خلال إضفاء القرميد الأحمر مثلاً على بيوت المستعمرين، وهو العنصر العمراني الذي يميز البيوت الأوروبية أو صورة الأوروبيين عن فكرة البيت. تبقى هذه البيوت دخيلة، وغير منسجمة مع بيوت الحجر التقليدية المحليّة، كما أنها تعبّر عن محاولة المستعمر المخفقة باستمرار لتوطين أوروبا في قلب فلسطين. إن هذا الإخفاق السرّي الذي يتولّد عند الصهيوني على المستويين الفردي والجمعي يظهر، رغماً عنه، في نتاجه الفني. يشرح الفنان الفلسطيني الراحل كمال بلاطة كيف أن معظم الفنانين الذين استوطنوا فلسطين عمدوا إلى رسم مناظرها الطبيعية بشكل جامد وتوثيقي. يقول بلاطة إن الفنان الأوروبي شعر بالحاجة إلى معالجة طبيعة فلسطين الثرية والعصية عليه من خلال نقلها رسماً كما هي، إذ إن المستعمر كان يرى في طبيعة فلسطين «حلم الحقول الخضراء في نورماندي وسمائها الرمادية»، أي نقل المكان الأوروبي إلى فضاء خارجه ومنفصل عنه.

إن هذا الإخفاق هو ما يحقن الأدبيات الصهيونية بطابع «الميلانخوليا»، وفق المؤرّخ نيتزان ليبوفيتش الذي يشرح في مقاله عن كتابات الصهيوني البولندي إزرائيل زاركي أن أصل هذه الميلانخوليا هو عدم قدرة الصهاينة على التأقلم والمحيط الطبيعي "الجديد" في فلسطين. فالشخصية الرئيسية في روايات زاركي تحلم بالذهاب إلى "أرض الحليب والعسل" ولكن تتجه للانتحار عند وصولها هناك. وغالباً ما تقضي هذه الشخصيات أيامها بالطواف التافه في الطبيعة الفلسطينية ممتلئة بالندم. يشبه زاركي عدم قدرة المستوطن على تطبيع الطبيعة الفلسطينية كمثل نبتة ما تخوض محاولات مضنية لتوصيل جذورها إلى القاع وعدم قدرتها أبداً على ذلك. إلا أن هناك جزئية تغيب عن تحليل يبوفيك لهذا تشبيه زاركي للوجود الصهيوني المعنف في فلسطين رغم كونها أكبر دليل على هذا الإخفاق الصهيوني السري. ذلك أن زاركي يشبه الوجود الصهيوني بنبتة تلبث في حوض ما، أي شتلة مؤقتة عابرة – على عكس شجرة زيتون عمرها آلاف السنين والتي هي التجسيد التقليدي للوجود الفلسطيني في فلسطين. وإن أمثال هذه الجزئية الفاضحة تتغلغل أعمال المستعمر بالرغم من كل محاولاته الدموية لتطويع الواقعين الطبيعي والميتافيزيقي لفلسطين.

أما حنان هيفر فيحلّل قصيدة «في الحقل» للصهيوني الأوكراني حاييم نعمان بياليك لتسليط الضوء على جانب مبطن في القصيدة يومئ إلى عدم قدرة الصهيوني على الوجود المادي في فلسطين والحفاظ على صهيونيته أو حتى ممارستها بالوقت ذاته. لذلك، يلجأ المستعمر الصهيوني إلى خلق طبيعة جديدة في فلسطين تحاكي الطبيعة الغربية التي اعتادها قبل استعماره للمكان والتي لا يستطيع خلقها إلا من خلال القضاء على عارف الأرض وصديقها: الفلسطيني. فحتى القصائد التي تعمد إلى وصف طبيعة فلسطين تذهب، في معظم الحالات وعلى الرغم من كاتبها، إلى وصف الطبيعة الأوروبية، على حسب هيفر. يحاجج هيفر أن قصيدة "في الحقل" والتي تعتبر من أهم القصائد الإسرائيلية، تفضح، بالرغم من كاتبها، استحالة نشوء علاقة بين كيان رومانسي والطبيعة بشكل طبيعي وعضوي، وذلك لأن الوجود الصهيوني دخيل على الطبيعة الفلسطينية وغير قادر على التماهي فيها. لذلك، يحاول المستعمر القضاء على كل أثر فلسطيني فيها، بما في ذلك الإنسان الفلسطيني وإمكانية رؤيته لدى المستعمر- الموضوع الذي يتوسع في الكتابة عنه الباحث سري مقدسي.

تتوسّع هالة الأرض في أدبيات الفلسطينيين؛ الذين يفهمونها، يحبونها، ويسعون إلى تحريرها. يتساءل محمود درويش: لماذا تسحب البيارة الخضراء إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناء/ وتبقى رغم رحلتها ورغم روائح الأملاح والأشواق، تبقى دائماً خضراء؟»، وتصرّ أدبيات المقاومة على استرجاع الطبيعة الفلسطينية. ما يجمع الفلسطينيين في الشتات واللاجئين والمحاصرين و«الأحرار» هو حلمهم بتحرير طبيعة بلادهم من المستعمر. والأرض تعرف ذلك؛ فهي التي تحوي كالرحم أجساد من استشهدوا فدائها وهي التي تشعل نيراناً في الشجر الدخيل عليها، منتظرة تحريرها ومقاومة إلى جنب الجسد الفلسطيني.