«المليونير» في المتخيل الشعبي أكثر من مجرد شخص يمتلك الملايين. هو حالة اجتماعية في حد ذاتها تتخطى الطبقات. جاذبية «المليونير» تكمن في قدرته على التأثير الذهني، فتغدو هيمنته الفكرية أشد وطأة من هيمنته المادية إذا تبنينا نظرية المفكر الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي.«المليونير» عصيّ على الصراع الطبقي. التحول الى «مليونير» يطغى على الرغبة باستبداله.

لكن، هل «المليونير» يطابق الصورة المرسومة له اجتماعياً؟ لطالما تملكت الكثير منا الشكوك حول كثيرين: هل يملكون أكثر مما يظهرون؟ أو سمعنا همسات وشائعات عن ثروات يحويها أقل من يشتبه بامتلاكهم أموالاً طائلة.
يروي المؤرخ الروماني Pline أن رسامين إغريقيين Zeuxis وParrhasios كانا من المبدعين في مجال الخداع البصري تنافسا على رسم لوحتين تخدعان البصر. عرض Zeuxis في لوحته فاكهة الكرز، وما هي إلا لحظات حتى غط عصفور محاولاً نقرها فذهل الحضور. وحين جاء دور Parrhasios عرض لوحته التي كانت مغطاة بشادر، فهب منافسه طالباً إزاحة الشادر ليتبين له أن الشادر هو اللوحة بعينها. تفوّق Parrhasios لأنه نجح في خداع الإنسان.

نصف «المليونيرية» في الولايات المتحدة لم يشتروا يوماً ساعة يتجاوز سعرها 150 دولاراً

ما «المليونير» إلا مثال حيّ للوحة Parrhasios، لكن الفرق في هذه الحالة أن من رسم اللوحة وخدع نفسه هو الجمهور.
في كتاب بعنوان Millionaire Next Door أو جارك المليونير، من تأليف توماس ستانلي وويليام دنكو، ورد تعليق لسكرتير سابق في وزارة الخزانة الأميركية حين دعي لحضور حفل جمع كبار الأثرياء في الولايات المتحدة والذي فوجئ بأن «المليونيرية» بشر يأكلون ويشربون كالجميع، لا بل إنهم لا يشبهون ما تخيله طوال سنوات عنهم. «لا يمكن لهؤلاء الناس أن يكونوا مليونيرية»! يقول السكرتير، «إنهم لا يبدون كالمليونيرية ولا يلبسون كالمليونيرية ولا يأكلون كالمليونيرية ولا يتصرفون كالمليونيرية ولا حتى يملكون أسماء توحي بأنهم مليونيرية... أين المليونيرية الذين يشبهون المليونيرية»!؟»
دهشة الرجل مبررة ولا يفترض أن تثير الاستغراب. فالميليونير هو هو. لم يتبدل ولم يتغير. افترض الرجل أن الفرق في الحساب المصرفي يؤدي حتماً الى اختلافات جوهرية في العادات والسلوكيات الاجتماعية. لكن المليونير ليس سوى صناعة فكرية تخيلها ونحتها المجتمع. المليونير حاجة اجتماعية. لو لم يكن هنالك منه لخلقه المجتمع. المليونير هو الآخر الذي يتمناه كثيرون، هو ما نحن لسنا عليه في أغلب الأحيان وما نسعى الى تحقيقه.
في كتاب Secrets of the Millionaire Mind لهارفت إيكر، يذكر الكاتب نصيحة أسديت له: «هل تعرف أن كل الأغنياء يفكرون بطريقة واحدة؟ في معظم الحالات فإن الأغنياء يفكرون بطريقة معينة، والفقراء يفكرون بطريقة مختلفة تماماً. وطرق التفكير هذه هي التي تحدد النتائج التي يحققونها».
ولكن، هل يعقل أن نخدع بصرياً الى هذا الحد؟ من هم أولئك الذين نراهم يلبسون أغلى البذلات والساعات، ويقودون السيارات الخيالية؟ هل هم مجرد وهم؟
كلا ليسوا كذلك. إنهم موجودون لكنهم ليسوا «المليونيرية». هم أصحاب المداخيل المرتفعة. والفرق بينهم وبين الكثير من أصحاب الملايين كي لا نعمم، أن المليونير يعيش بأقل من دخله الحقيقي ولديه مخزون مالي يكفيه ليعيش لسنوات بدون عمل. أما أصحاب الأجور المرتفعة فهم من يعيش بأسلوب مترف يفوق دخلهم، وبنمط حياة يقوم على البذخ والتبذير وهم معرّضون للانهيار والإفلاس عند حصول أي مطب خطير.
هذا هو تماماً الاختلاف في التفكير الذي تحدث عنه هارفت إيكر في كتابه.
المليونير لا يفكر بالرولكس والفيراري لأنه لا يجد داعياً لاقتنائها. وهذا الأسلوب في التفكير هو ما ساهم بطريقة أو بأخرى في جعله مليونيراً.
فوفقاً لكتاب Millionaire Next Door، لأن أكثر من 80% من ملونيرية الولايات المتحدة من الصنف العصامي الذي بدأ من الصفر، فنصفهم يلبسون ساعات لا يتجاوز ثمنها 235 دولاراً، 23% منهم يقودون سيارات موديل العام، أما البقية فسياراتهم قديمة أو غير حديثة العهد كثيراً.
نصف «المليونيرية» في الولايات المتحدة لم يشتروا يوماً ساعة يتجاوز سعرها 150 دولاراً، ولم يقتنوا في حياتهم بذلة يفوق سعرها 400 دولار.
تكثر في المجتمع محاولة التشبه بالمليونيرية كما نتخيلهم، كما نريدهم في الشكل والسلوك، لكن تنعدم محاولة التشبه بهم فكرياً وعملياً. وهذا بالضبط ما يجعل البعض «مليونيرية» حقيقيين ويجعل من البقية نسخات مقلدة.