مونتريال | إندونيسيا أكبر بلد مسلم في العالم. تُضرب بها الأمثال لكونها مجتمعاً ديموقراطياً مميزاً في شرق آسيا يتمتع باقتصاد حيوي. هذا العام صُنّفت وصيف "بلد العام 2014" وفقاً للتقويم السنوي الذي تُعده مجلة "إيكونوميست"، نظراً الى التحول السياسي الذي شهدته ويمهّد لحكم مدني بعد سنوات طويلة من قيادة العسكر.
ولكن هذا الازدهار والتألّق لا ينعكس مالياً في أكثر ما تشتهر به البلاد. الحديث هنا هو عن الصيرفة الإسلامية التي لا تزال تمثّل نسبة متواضعة من النشاط المصرفي المسجّل في البلاد. بحسب بيانات المجلس العالمي لقوننة الصيرفة الإسلامية – وهو منظمة تُعنى بوضع القوانين والمعايير في هذا المجال – فإنّ حصّة المصارف الإسلامية من الأصول المصرفية الإجمالية في إندونيسيا لا تتخطّى 5%! لا يُعدّ هذا البلد يتيماً بحسب هذا التصنيف، فإلى جانبه، وبالمعدل نفسه، يحلّ بلدان إسلاميان من العيار الثقيل هما تركيا ومصر. في المقابل، يبرز بلدان عند القمّة بمعدّل أصول إسلامية يمثل 100% من النشاط المالي: إيران والسودان.
التفاوت كبير، وتخرقه في منتصف الطريق بلدان مجلس التعاون الخليجي، على رأسها السعودية.

توسع... ولكن

"صحيح أنّ الصيرفة الإسلامية توسّعت بمعدّل سنوي يفوق 15% خلال الأعوام الخمسة الماضية... إلا أنّها تبقى مجهولة في العديد من البلدان التي تطبقها وللعديد من صناع السياسات". هكذا تحدّد ورقة بحثية بعنوان "قوننة وإدارة المصارف الإسلامية" صدرت أخيراً عن صندوق النقد الدولي، وضع هذه الصناعة المالية حالياً.
في المبدأ لا تختلف المصارف الإسلامية كثيراً عن البنوك التقليدية: آليات العمل ومحفزاته هي نفسها؛ كلها شركات تسعى إلى تعظيم الربح، تعزيز العوائد وتنويعها إضافة إلى احتواء المخاطر.
الفارق المهمّ بين هاتين المجموعتين أن المصارف التقليدية تلعب دور الوسيط بين المدخر وطالب الأموال عبر مقاربة تقوم على الائتمان، أي تقديم القروض، في المقابل تعتمد البنوك الإسلامية مقاربة تقوم على الأصول – وهو ما يعكس تعاليم الشريعة بتحريم بيع وشراء الديون عبر العقود بهدف تحقيق العائد عبر الفوائد، أي جمع الأرباح من دون أي نشاط اقتصادي فعلي ينخرط فيه الدائن.
صحيح أن تطبيق الشريعة
يختلف بين بلد وآخر، لكن هناك فوائد لإنشاء مجلس شرعي مركزي لكي يخلق التناغم بين المصارف


تُحدّد الدراسة الفروقات القائمة، وتجزم أنّ الأفضليات التي تُقدمها الصيرفة الإسلامية من شأنها أن تؤمن تحوطاً من المخاطر، ليس فقط في البلدان التي يقطنها مسلمون في جميع البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. ومن شأن نموذج كهذا إذا اعتُمد في المبدأ، أن "يوجّه صناعة إدارة الأموال في البلدان التي يُطبّق فيها نحو أهداف اجتماعية مشتركة مرتبطة بالاقتصاد الحقيقي" يقول معدّو البحث. "كذلك تُسهم على الأرجح في تقليص المحفّزات وراء الهندسة المالية التي تُنتج الأدوات المالية المعقدة والغامضة".
وفي الحقيقة، ازداد الانكشاف على الصيرفة الإسلامية خلال العقد الماضي بالتزامن مع اندلاع الأزمة المالية العالمية، تحديداً بسبب تفلت الأسواق المالية من الرقابة ونتيجة انتشار الأدوات المالية المسمومة القائمة على الغش والاحتيال والتي يستخدمها النفاذون لتحقيق المليارات على حساب المستثمرين والمستهلكين الصغار.
ولكن ذلك لا يعني أنّ نموذج عمل المصارف الإسلامية لا يحمل أخطاراً على هذه المؤسسات وعلى المستثمرين في أعمالها في الوقت نفسه. الأخطار الخاصة بالبنوك الإسلامية هي وليدة نموذج عملها بشكل حصري. مثلاً، هناك خطر عدم الامتثال كلياً لتعاليم الشريعة ما يُضعف ثقة المستهلك كونه يمهد لمخلف أنواع النشاطات الاحتيالية واجتهادات تفسير التعاليم المذكورة.
مخاطر مشتركة
هناك طبعاً مخاطر مشتركة تهدد المصارف التقليدية والإسلامية على حد سواء. ولكن قد تُصبح هذه المخاطر أعلى في حالة الصيرفة الإسلامية. في هذا المجال تتحدث دراسة صندوق النقد تحديداً عن مخاطر التمويل (Credit Risk) التي يزيد خطرها في حالة المصارف الإسلامية. فهذه المؤسسات لا تستطيع ترتيب محفظة قروضها – وهي عقود "المرابحة" التي تشكل عصب أعمال هذا القطاع في العالم – عبر تسنيد القروض وبيعها كما تفعل المصارف التقليدية وذلك بهدف تقليص المخاطر في ميزانيتها عبر تنويعها. على البنك الإسلامي الاحتفاظ بسند المرابحة إلى حين استحقاقه.
هنا أيضاً يبرز خطر السيولة، الذي يبدو أكبر أيضاً لمجموعة من الأسباب، أبرزها أن المصرف الإسلامي يعتمد على التمويل القصير الأجل، وهو تمويل لا يؤمّن الاستقرار الأنسب لتشغيل الأموال على النحو الذي يناسب احتياجات المصرف المستجدة؛ كما أن المصرف الإسلامي يفتقد رعاية الدائن الأخير (Creditor of Last Resort) الذي يُشكّل سنداً له في الأوقات الحرجة.
ومن الأسباب الأخرى أنّ المصارف الإسلامية تعمل إجمالاً في اقتصادات لا تتمتع ببيئة مالية متوافقة مع الشريعة وترعى تبادل السندات بين المصارف نفسها وفي السوق النقدية ومع الحكومة.
مخاطر وإجراءات
إذاً المخاطر موجودة، وبقوة، وتحتاج إلى إجراءات مطرّزة في كلّ بلد لاحتوائها. ولكي تتطور هذه الصناعة التي يعدها المسلمون خيرة ما أنتجته شريعتهم في الإدارة الاجتماعية الاقتصادية المباشرة.
"لا يمكن الجزم ما إذا كانت مخاطر المصارف التقليدية أكبر منها في البنوك الإسلامية، أو العكس، فالجواب يتفاوت بين بلد وآخر، كذلك فإنّ مستوى مخاطر المصرف الإسلامي يتعلّق بحجمه"، تقول دراسة صندوق النقد.

"ونظراً الى هذه المخاطر، فإنّ المصارف الإسلامية تحتاج إلى إطار قانوني، مؤسساتي وتنظيمي تماماً كما الحال عليه في قوننة المصارف التقليدي"، تتابع الدراسة في خلاصاتها. على وجه الخصوص "يُشكّل الإطار القانوني شرطاً أساسياً لكي تتطور الصناعة على نحو سليم".
في المباشر، على المصارف الإسلامية تعزيز مستوى الحوكمة ــــ أي الإدارة الرشيدة ــــ التي تعمل بموجبها. "هناك العديد من الهوات التي يجب ردمها" تقول الدراسة. مثلاً، نظراً لأنّ هيئة الحوكمة في المصرف تتبع مباشرة لمجلس الإدارة فإنّ أي تضارب في المصالح يُرصد في عمل المصرف لن يُكشف إلا بعد تحقق الإيرادات والأرباح المرتقبة، وذلك إن تم الإعلان عنه على الإطلاق!
من جهة أخرى، فإنّ توصيات المجلس العالمي لقوننة هذه الصناعة يفترض إنشاء إطار خاص باحترام الشريعة يتضمن مجلساً شرعياً يتولى الإشراف إضافة إلى مراجعة دورية لرصد الانتهاكات على هذا الصعيد إن وجدت. "صحيح أن تطبيق الشريعة يختلف بين بلد وآخر، لكن هناك فوائد لإنشاء مجلس شرعي مركزي (إضافة إلى المجالس الموجودة في البنوك) لكي يخلق التناغم" بين هذه الوحدات المالية.
إذاً، يجدر بالقيمين على الصيرفة الإسلامية، تقديم الطروحات الملائمة لتطويرها بناء على الحاجات الحالية. وتجدر بهم تجربة المعايير وتطبيقها بالتوازي مع توسّع دور هذه الصناعة التي سيكون دورها مع الوقت "تعزيز انتشار الدمج المالي، على الأرجح" تجزم الدراسة.
تقدم كهذا من شأنه أن يُعزز دور هذه الصناعة في بلدان كثيرة لديها مقومات الازدهار على هذا الصعيد مثل لبنان؛ هنا لا تفوق حصة الأصول الإسلامية معدل 2% من الأصول المصرفية الإجمالية في البلاد.
ولكن بغياب الإطار الملائم لتعزيز عمل هذه الشركات في لبنان أو غيره من البلدان، تبقى شريعة الصيرفة الإسلامية ابنة غير شرعية للنظام المالي العالمي.