مونتريال | رغم أجوائه البورجوازية وغطائه الرأسمالي، شكّل مؤتمر دافوس الذي ينظمه المنتدى الاقتصادي العالمي، إطاراً لبحث شجون هذا العالم الذي تتعاظم فيه اللامساواة في ظلّ النظام العالمي الذي ينحو دوماً صوب تركيز الثروة في أيدي قلّة متناقصة، لدرجة أن نصف الثورة على هذا الكوكب سيملكها 1% فقط من قاطنيه بحلول العام المقبل.العالم يشهد حالياً ثورة تكنولوجية لم يشهد مثيلاً لها من حيث السرعة والانتشار. اليوم هناك نحو 6 مليارات هاتف خلوي شغال في العالم، و3 مليارات إنسان يستخدمون الإنترنت. وبعد خمس سنوات ستصل نسبة حاملي الهواتف الخلوية إلى 90% من سكان الكوكب.

أهم من الثورتين

"ما أنتجته الثورة المعلوماتية أخيراً هو أضخم وأهم مما أفرزته الثورتان الزراعية والصناعية" علّقت محررة الشؤون الأميركية في صحيفة "فاينانشال تايمز"، جيليان تيت، في تقديمها لحلقة حوارية حول عدم المساواة في عالم التكنولوجيا.
تُشكّل التكنولوجيا محور توليد الوظائف في المستقبل. فالإنترنت والتوصيلات والسعات المرتبطة بها هي البنية التحتية التي سيعتمد عليها العالم. بحسب مدير مركز الابتكار التكنولوجي في معهد MIT الأميركي، إيريك برينجولفسون، "خلال زياراتي إلى مراكز التطوير التابعة للشركات الكبرى، رأيت ابتكارات مخصصة للعقدين المقبلين، لا يضاهيها أي شيء شهدناه حتّى الآن".
"إننا نعيش أفضل الأوقات وأتعسها" تابعت الصحافية البريطانية بلكنتها الدرامية. أشارت مثلاً، إلى أنّ نصف الوظائف تقريباً في السوق الأميركية ستُستبدل بالآلات خلال العقدين المقبلين. "ماذا سيفعل البشر؟".
"مجموعة خارقة" في قلب شبكة التجارة العالمية ومأساة عنوانها "ثروة الـ1%" تطبع العولمة حالياً


السؤال بالأحرى هو "ماذا ستفعل الفئات المهمشة من البشر؟" ماذا ستفعل الطبقات الوسطى على امتداد المعمورة في ظلّ تركّز فرص العمل لصالح المحظوظين في العولمة؟ ماذا سيكون بوسع الفقراء فعله عندما تقف الطبقة الوسطى مدهوشة أمام تعاظم هوّة اللامساوة؟
يُجمع أصحاب الأفكار الليبرالية المسؤولة الذين بوسعهم الهمس في الآذان المنتشرة في مراكز القرار، على أنّ دور الحكومات في المرحلة المقبلة يجب أن يكون أكثر تركيزاً وحدّة؛ بمعنى آخر، يجب أن تحافظ الدولة على مبادئ السوق الحرّة وأن تحصر تدخلها الاقتصادي – الاجتماعي في مجالات تحتاج إلى رعاية خارج إطار القيد المحاسبي المبسّط.
ولكن من الصعب جداً تخيّل أن العقلية السياسية السائدة والمسيطرة – بمعنى إدارة شؤون البلدان الاجتماعية والاقتصادية – ستكون مستعدّة للمساومة على المصالح الشائكة التي ترعاها لتحقيق إعادة توزيع معيّن للثورة.
لا شكّ أن الدورات الاقتصادية والمالية في كنف العولمة توصل إلى حالات متطرّفة من انتقال الثورة؛ ولكنه انتقال عرضي. أهم الأمثلة حالياً ما يحصل حالياً في سوق النفط. إذ نتيجة فائض العرض الناجم عن ضعف الطلب بطبيعة الحال وتوجّس منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك من مستقبل الإنتاج الاميركي، فإنّ ما بين 1.5 تريليون و2 تريليون دولار ستتحوّل تلقائياً من البلدان المنتجة للنفط إلى البلدان المتعطشة له؛ هذه الأموال هي عبارة عن خسائر للمصدرين ودخل متاح للمستهلكين.

ينمون كالفطر

وحتى عندما يكون انتقال الثورة حدثاً فعلياً نتيجة لتحوّلات أصلية، فإنه يكون مشوهاً في كثير من الأحيان ولا يصب بالنسبة المطلوبة لصالح الفئات التي تُعد بأمس الحاجة إليه. صحيح أنّ قرابة مليار بشري انعتقوا من فكّ الفقر منذ تسعينات القرن الماضي، إلا أنّ نسبةً كبيرة منهم كانت في بلد واحد، الصين؛ وهناك ينبت أصحاب المليارات كالفطر لدرجة أنّ الفدرالية الروسية تُعوّل عليهم لتنفيذ المشاريع الاستثمارية في مواجهة أزمة العقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط.
ما يُفاقم التشوّه هو أنّ الهياكل الاقتصادية الكبرى في العالم، تُعزّز قبضتها على مقدراته. إنها الشركات المرتبطة بعلاقات شائكة ينجم عن التفاعل بينها تركز إضافي للثورة؛ إنها شبكة مربحة للموهوبين ولأصحاب العلاقات – المتوارثة إجمالاً – ولكنها مدمّرة للآخرين.
عشية منتدى "دافوس"، لم تكن الأضواء مسلطة فقط على الدراسة التي نشرتها منظمة "أوكسفام" البريطانية حول مأساة عنوانها "ثروة الـ1%"، بل على دراسة أخرى نُشرت قبل ثلاثة أعوام حول الشركات الكبرى التي تسيطر على المقدرات الاقتصادية في العولمة.
توصّلت الدراسة التي أعدها ثلاثة باحثين في "المعهد التكنولوجي الفدرالي السويسري" وركّزت على نظرية تفاعل الأنظمة وترابطها في إطار العولمة، إلى أنّ هناك مجموعة من 1318 شركة عالمية تُشكّل محور التجارة الدولية؛ تملك هذه الشركات غالبية أسهماً في 60% من أكبر الشركات التجارية والصناعية في العالم.
أما الخلاصة الأهمّ التي نشرتها الدراسة وهي تُشكّل حالياً معطى علمياً يُكمّل ما نشرته "أوكسفام" أخيراً، فهي أنّ هناك "مجموعة خارقة" في قلب شبكة التجارة العالمية، مؤلّفة من 147 شركة فقط تسيطر على 40% من الثروة في تلك الشبكة.
ليس غريباً أن تكون الشركات المالية – تحديداً المصارف الاستثمارية العملاقة، شركات التأمين والصناديق الاستثمارية – على رأس تلك اللائحة، من مصرف "باركليز" الإنكليزي وشركة "أكسا" للتأمين وصولاً إلى المصرف الأميركي "غولدمان ساكس". فهذه الكينونات تمكّنت من خلق أموال وهمية وشفطها ومن ثمّ تكبيد فقراء العالم فاتورة الفراغ الذي حلّ عندما ظهرت المصيبة عام 2008.
يُشدّد الباحثون على أن دراستهم تؤكّد أهمية صياغة قوانين عالمية لمكافحة الاحتكار، أي تحول دون أن تصبح الشركة الكبيرة أخطبوطاً.
ولكن من يصيغ تلك القوانين؟ نخبة السياسيين ورجال الأعمال الذين كانوا مجتمعين في دافوس!
المشكلة هي أنّ من بيده القرار من القطاعين العام والخاص لن يغامر في مشاريع تحدّ من سيطرة الشبكة القائمة. والمشكلة الاكبر هي أن القطاع الخاص تحدوه المنافسة وخفض النفقات للسيطرة في قطاعه.
صحيح أن شركة مثل "آبل" يُمكنها تحقيق إيرادات إجمالية قياسية بقيمة 75 مليار دولار وأرباح تبلغ 18 مليار دولار خلال ثلاثة أشهر فقط – وهو ما حققته فعلاً خلال الفصل الأخير من عام 2014 – نتيجة ريادة هاتفها الذكي iPhone، إلا أن إنجازها يكان يكون مستحيلاً من دون ظلامية اقتصادية وإنسانية تلحق بالعمال في مصانعها الصينية، ومن دون أساليب محاسبية ملتوية تحجب 150 مليار دولار عن مصلحة الضرائب الأميركية، أي عن جيب المواطن العادي الذي يشتري بنهاية المطاف الهاتف الشهير.
لذا، فإنّ حصر الحديث عن اللامساواة في إطار نخبوي، وتحويله إلى طاولة حوارية في نادٍ بورجوازي في دافوس، تُفيد القطاع الخاص بشكله الحالي، ولكن ليس أكيداً ما إذا كانت الإفادة مستدامة في ظلّ تعاظم تركز الثروات وتعاظم السخط من هذا المنحى. حتّى يتمّ تطوير النقاش إلى مستوى إعادة توزيع الثروة، ستبقى العولمة مطبوعة باحتكار "المجموعة الخارقة" وبسيطرة نسبة 1% من البشر على نصف ثروة العالم.




السيطرة على الغذاء: من الشوكولاته إلى المياه

لعلّ أخطر مظاهر الاحتكار وتركّز النفوذ الاقتصادي، هي في مجال الغذاء. من بين أهمّ اللوائح وأكثرها دلالة التي أُعدت في هذا الإطار ما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" العام الماضي: الشركات العشر التي تسيطر على الصناعة الغذائية في العالم. تبدأ بشركة Kellogg صانعة رقاقات الذرة الشهيرة، هي الأصغر بين العمالقة الكبار في عالم الغذاء من حيث الإيرادات حيث تحقق 14.8 مليار دولار، تصنع هذه الشركة أكثر من 1600 صنف غذائي، تبيعها في أكثر من 180 بلد.
تليها مجموعة General Mills، إيراداتها 17.9 مليار دولار، ثمّ مجموعة الصناعات الغذائية الإنكليزية المتحدة، التي تصنع زيت مازولا، وصولاً إلى شاي Twinings؛ إيراداتها 21.1 مليار دولار.
تُعدّ مجموعة Danone الأكبر عالمياً في مجال الحليب ومشتقاته؛ إيراداتها 29.3 مليار دولار. أمّا Mars فهي غنية عن التعريف، تبلغ إيراداتها 33 مليار دولار، وتملك ماركة الأرز الشهيرة Uncle Benz.
Mondelez هي عملاق حقيقي نشأ بعد انقسام شركة Kraft إلى وحدتين؛ وتبلغ إيراداتها 35.5 مليار دولار. تليها شركة كوكا كولا، التي تبلغ إيراداتها 46.9 مليار دولار وأرباحها 8.6 مليارات دولار.
أما "بيبسي" فإيراداتها الإجمالية 66.4 مليار دولار ويعمل لديها 274 ألف موظف.
مجموعة Unilever البريطانية ومركزها في هولندا تبلغ إيراداتها الإجمالية 68.5 مليار دولار؛ تصنع البوظة وشاي ليبتون.
وعلى رأس العمالقة شركة Nestle. هي الأكبر على الإطلاق، بإيراداتها البالغة 103.5 مليارات دولار. توظف 333 ألف شخص. تكفي الإشارة إلى أن هذه الشركة السويسرية تصنع 74 صنفاً من المياه المعدنية المعبأة، إضافة إلى 38 ماركة من البوظة.