من الصعب جداً رصد بصمة المصارف الاستثمارية في القطاع المالي اللبناني. تعيش هذه المؤسسات في ظلّ أخواتها الكُبريات، المصارف التجارية التي تُعدّ أحد أركان النظام الاقتصادي السياسي القائم. تُظهر المقارنة بالاعتماد على بيانات عام 2014، أن الميزانية المجمعة للبنوك الاستثمارية، والبالغة 4.1 مليارات دولار بالكاد تُعادل 2.5% من الأصول الإجمالية للمصارف التجارية. هذا المؤشر ليس حاسماً للمقارنة، نظراً إلى الفوارق الهائلة القائمة بين هاتين المجموعتين، غير أنه مهم للولوج في أداء هذه المصارف ودورها في التركيبة اللبنانية.

روح المغامرة

يعمل في لبنان 16 مصرفاً استثمارياً، منها من له امتدادات جغرافية تصل إلى آسيا الوسطى وإلى أفريقيا الغربية، وحتى إلى البلدان الأوروبية القريبة. ولكن على الرغم من روح المغامرة والمخاطرة التي يُفترض أن تتمتع بها هذه الكيانات نظراً إلى طبيعة نشاطها، إلا أنّ قرابة نصف ميزانيتها عبارة عن أصول موظفة لدى المصارف التجارية فيما 35% من الأصول عبارة عن قروض للقطاع الخاص، لتبقى حصّة تفوق بقليل 10% عبارة عن استثمار لا بدّ منه طبعاً في سندات الخزينة اللبنانية.
في الواقع تقتصر سمعة المصارف الاستثمارية اللبنانية على ارتباطها اللصيق بالمصارف التجارية الكبرى، إن كان عبر المشاريع أو عبر الهوية. فعلى لائحة هذه المصارف، تُمكن ملاحظة أن عشرة بنوك بالحد الأدنى، هي فعلياً الذراع الاستثمارية للمؤسسات التجارية الأم.
على الرغم من أن البلاد تتمتع
بنظام مالي متكتم نسبياً إلا أن لا مصرفاً استثمارياً لبنانياً تحوّل إلى ماركة عالمية، أو حتى على الصعيد الإقليمي


ولكن ما تقوم به المصارف الاستثمارية فعلاً هو نشاطات يُمكن بكل بساطة اختصارها في فروع في المصارف التجارية العملاقة. هذه النشاطات هي فعلياً، ترتيب إصدارات السندات، أو الطروحات الأولية (IPO) في السوق المالية (وهي من أندر الحوادث المالية التي يُمكن أن يشهدها العالم!)، تجهيز صفقات الاندماج الاستحواذ... أي باختصار كل ما له علاقة بالإدارة المالية في عالم الأعمال. ونظراً لحجم لبنان ومحدودية الخيارات المتاحة فيه، فإن نشاط هذه المصارف يتحول إلى سمسرة في محادثات عن صفقة إصدار يوروبوند – أي سندات الدين بالعملات الأجنبية التي تصدرها الدولة للاقتراض – أو إلى عامل مسرّع وتطميني في المشاريع العقارية الدسمة.
صحيح أن هذا النشاط ينضح بالرتابة - والتي تفرضها طبيعة النظام المالية اللبناني – غير أن فرصاً إقليمية كثيرة متاحة، وتجارب سابقة قد تؤمن الأرضية اللازمة للانطلاق نحو مجالات أكثر حماسة.

تمويل أفلام

بداية لا يُمكن المرور على نشاط البنوك الاستثمارية اللبنانية، في السنوات القليلة الماضية من دون الإشارة إلى احدى أهم المغامرات التي خاضها مصرف FFA Private Bank عندما قرّر تمويل فيلم 2Guns وهو إنتاج هوليوودي بقيمة 80 مليون دولار ومن بطولة دينزل واشنطن ومارك وولبرغ. حقق هذا الفيلم انكشافاً، وإن خاطفاً، للمصرف المموّل وربّما متّن وجوده كمستثمر لبناني غير اعتيادي في عالم السينما، بعدما كان قد ساهم في تمويل فيلم "النبي" المقتبس عن كتاب الأديب والشاعر اللبناني جبران خليل جبران. قد تكون هذه المغامرة مرحلية أمنتها قنوات معينة من العلاقات المحظوظة.ولكن هذا يعني في الوقت نفسه أن هذا النوع من المشاريع يُمكن أن يتكرر وليس بالضرورة في مجال الفن السابع بل في مختلف مجالات الفنّ الأخرى.
ولكن قبل نقل التركيز كلياً إلى لوس أنجليس، حيث الاستديوهات العملاقة، أو إلى العواصم الأوروبية الراقية في مجال الإنتاج السينمائي، هناك مجالٌ حيوي للازدهار في المحيط؛ والحديث هنا طبعاً هو عن بلدان مجلس التعاون الخليجي.

مغالاة

لا يُمكن المغالاة على المصارف الاستثمارية في مقاربة هذه الفرص البديهية. ولكن يبدو أن المصارف الغربية التي شهدت ردّة خلال الأزمة المالية – التي خلقتها وغرقت فيها ومن ثمّ أُنقذت منها – تعود بقوّة إلى الخليج وتلعب دوراً يُمكن بكل سهولة أن تحجزه المصارف الاستثمارية اللبنانية.
بحسب تقرير أعدته شركة Freeman & Co، ونُشر أخيراً، فإنّ الرسوم التي تقاضتها المصارف الاستثمارية – أو التي تولدت عن نشاطات ترتبط بالصيرفة الاستثمارية – في منطقة الشرق الأوسط شهدت نمواً هائلاً، فاق 100%، لتبلغ 1.1 مليار دولار، ما يعكس عودة النمو إلى قطاع إدارة تمويل الشركات، إصدار السندات وترتيب طرح الأسهم. ويبدو أن المصارف الأوروبية والغربية، بحسب الشركة نفسها، تعود بقوّة إلى المنطقة على حساب المصارف الاستثمارية المحلية التي تراجعت حصتها من الرسوم المذكورة من 26% و34% خلال عامي 2013 و2013 إلى 19% فقط في العام الماضي.
يُشار هنا إلى أن انسحاب المصارف الاستثمارية الغربية من السوق العربية خلال الأزمة المالية، أفسح المجال أمام المصارف الوطنية لكي تملأ الفراغ.
وتوضح البيانات التي نشرتها شركة PwC أخيراً، أن نشاط الطرح الأولي للأسهم في الشرق الأوسط – أي تحول الشركات إلى كيانات مالية عامة تُتداول أسهمها في السوق – كان في العام الماضي عند أقوى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية. وبلغت قيمة عمليات الطرح الأولي 10.8 مليارات دولار أي أكثر من مرتين ونصف الميزانية المجمعة للمصارف الاستثمارية اللبنانية.
لا شكّ أن لكلّ مصرف في لبنان استراتيجيته للازدهار وتنويع مصادر دخله، ولكن على الرغم من أن البلاد تتمتع بنظام مالي متكتم نسبياً تحكمه السرية، وبسمعة مصرفية عالمية – حيث تتمكن مؤسساته من اللعب على تناقضات احترام المعايير والضغوط الغربية وفي الوقت نفسه خدمة قاعدة زبائن من المقيمين والمغتربين متنوعة على نحو هائل – إلا أن لا مصرفاً استثمارياً لبنانياً حتّى الآن تحوّل إلى ماركة عالمية، أو حتى على الصعيد الوطني.
وربما تكون الصيرفة الخاصة والاستثمارية هي فعلاً المجال الجديد للازدهار عوضاً عن التوسع الإقليمي والاستمرار بنموذج جذب الودائع وتحرير القروض الاستهلاكية المكلفة.
"يعمل فريقنا الخاص بالصيرفة الاستثمارية على مساعدة زبائننا من الشركات في إدارة المتطلبات الرأسمالية، ويؤمن النصح بشأن عمليات الاندماج والاستحواذ، تمويل الشركات وهيكلة رأس المال... أما فريق الصيرفة الخاصة فمهمته تقديم الدعم للزبائن عبر الخدمات المفصلة، المميزة والشخصية".
هكذا يُعرّف أحد المصارف الاستثمارية نشاطاته في منطقة المشرق العربي. يعتمد على قاعدة زبائن يشكلها المقتدرون الذين يهمهم أن يدير فريق خبير مخفظتهم المالية وتنويع الاستثمارية لضمان القدر الأكبر من العائد والهوامش الأعلى من الحماية المالية. فهل تحتاج المصارف الاستثمارية بدورها إلى النصح لكي توسع أعمالها وتنوعها وتخلق بقعة الضوء الخاصة بها بعيداً عن ظل المصارف التجارية؟