اقتحام القطاع
في خمسينيات القرن الماضي، سجلت أولى المحاولات اللبنانية لاقتحام قطاع الكاكاو الذي كان يسيطر عليه الاستعمار الفرنسي على البلاد (استقلت ساحل العاج عام 1960). بدأ اللبنانيون بشراء المحصول من المزارعين (السكان المحليون) ثم باعوه للتجار. اقتصر دورهم على الوساطة، وعلى نحو تدريجي، استأثروا بتنظيم عمليات قطف الكاكاو من الأحراج وبيعها. البيع هنا إما حبوباً بعد تنظيفها وتوضيبها، أو شوكولاتة بعد طحنها وتحويلها إلى سائل أو زبدة أو بودرة. اللبناني حاضر في الاحتمالات كافة. برز كل من آل الخليل وآل اللقيس وعامر. في سان بيدرو يتجاور مصنعان ضخمان، الأول معمل الخليل لرجل الأعمال اسماعيل الخليل الذي يحوّل الكاكاو إلى زبدة وسائل. والثاني معمل SAF CACAO (أحمد وعدنان عامر وإخوانهما) الحائز شهاد آيزو.

في خمسينيات القرن الماضي سجلت أولى المحاولات اللبنانية لاقتحام قطاع الكاكاو
يعد أكبر معمل في سان بيدرو والثالث في ساحل العاج. يصدر المعمل سنوياً حوالى 170 ألف طن من حبوب الكاكاو إلى شركات صنع الشوكولاتة في العالم، وينتج 30 ألف طن من سائل الشوكولاتة الخام الذي يستخدم في صنع أنواع الشوكولا المختلفة.
علي اللقيس (50 سنة)، مديره العام، يرد اسمه في البورصات العالمية. والده محمود نزل في داكار (السنغال) في طريقه إلى نيكاراغوا. التحق بأهل زوجته في برّ ساحل العاج عام 1956 ، حيث كانوا يعملون في القطاع. في سان بيدرو ولد كما ولدت والدته. ترك المدرسة في سن الثالثة عشرة ليسهم في دعم العائلة. دخل إلى الأحراج وأمضى فيها أسابيع طويلة يقطف المحصول ويجمعه. في عام 1989، لاحظ ازدهار سوق سان بيدرو. انتقل إليها، متشاركاً مع آل عامر الذين كانوا قد وصلوا من قانا عام 1960. قبالة معمل CARGILL تمتد امبراطورية SAF CACAO على امتداد آلاف الأمتار، تتوزع المستودعات وأماكن التخزين ومعمل تصنيع الشوكولاتة. قسم جانبي خصص لجمع البن. ساحل العاج الثالثة عالمياً بإنتاجه. شركة نستله العالمية تصنع من البن العاجي قهوة الـ "نسكافيه". فيما معامل تصنيع قهوة ROGUSSTA في الجزائر، تعتمد على البن العاجي أيضاً (موسم قطاف محصول البن بين كانون الأول ونيسان).
هناك، يعمل 1250 عاملاً منهم 250 لبنانياً وثلاثة آلاف أجير ويتعاون مع 25 ألف مزارع. نجاح المعمل أغوى العشرات من أقرباء أصحابه وأبناء بلدتيهم، قانا وجويا. النجاح خلق نجاحات. لا ينتهي طموح رجل الأعمال الخمسيني.
مع شريكيه، عدنان وأحمد عامر، يخطط اللقيس لتوسعة المعمل. حتى عام 2016، يخطط لبناء معمل مستقل لصنع مادة الشوكولاتة الأولية وإنتاج مئة ألف طن منه سنوياً وتصدير 150 ألف طن من حبوب الكاكاو.

شارع اللقيس

رئيس بلدية سان بيدرو، أطلق على أحد الشوارع اسم "شارع اللقيس". يلفت عضو مكتب الجالية طارق عطية إلى أن حوالى 1200 لبناني يقيم في المدينة، ويشكلون ثاني أكبر جالية لبنانية في البلاد بعد أبيدجان. معظمهم من بلدتي قانا وجويا. عائلات عطية وعامر واللقيس يملكون نفوذاً كبيراً في قطاعات الكاكاو والنقل والترانزيت ومحصول الكاجو والبن والأخشاب والمحروقات ومواد البناء والمواد الغذائية والكاوتشوك...
يحاول اللبنانيون ترتيب أوضاعهم بأنفسهم. عام 2008، افتتحوا مدرسة الغدير (تابعة لجمعية لبنانية) التي توفر تعليم اللغة العربية. وبرغم أن المدينة تصنف في طور النمو السياحي، إلا أنها تفتقد للمرافق الصحية وشبكات الكهرباء والطرقات. في حال احتاج أحدهم للعلاج مثلاً، يضطر للانتقال إلى ابيدجان وأحياناً إلى لبنان أو بلد آخر.
في سوبري البعيدة حوالى ساعتين، تبرز قصة نجاح أخرى. حسن فتوني من قانا، يعتبر أحد أكبر التجار الذين يشترون من المزارعين ويصدرون للأسواق المحلية والخارجية. نجاح وصل إلى سويسرا، لا تعكسه المعيشة البدائية في المدينة التي يقيم فيها حوالى 250 لبنانياً. هي أكبر مزرعة لإنتاج الكاكاو، إذ تنتج حوالى 350 الف طن سنوياً، لكن طرقاتها غير معبّدة وبيوتها متواضعة ومرافقها مفقودة.
عام 1998 ضاقت بفتوني سبل العيش في لبنان بعد أن اكتشف أن لعبة كرة القدم لا تطعم زوجته وأولاده خبزاً. التحق بابن شقيقته حسين في أبيدجان وانتقل منها إلى سوبري ليجرب حظه في منطقة كانت أقرب إلى المجاهل. تاجر بالمواد الغذائية بداية ثم انتقل إلى شراء محصول الكاكاو من المزارعين المحليين وبيعه إلى تجار الجملة. على نحو تدريجي، بات يجمع من المزارعين بين 150 ألفاً الى 200 الف طن سنوياً. توسع نطاق عمله، استدعى الاستعانة بموظفين لبنانيين.
في غضون سنوات قليلة "صارت نص قانا هنا" يقول. 35 عائلة تعيش في سوبري وعشرات الشبان منهم نجل فتوني، أسعد، الذي ترك لبنان ليضع لمساته في قصة نجاح والده. لكنها لم تكن كافية. بعد انتهاء العمل، يحل الملل والفراغ. لتبديده، شيد فتوني ملعباً لكرة القدم "لكي نتسلى ونضيع وقت" يقول. جمعية الغدير أيضاً، شيدت مدرسة لأبناء الجالية اللبنانية منذ 12 عاماً.

70 % لبنانيون


70 في المئة ممن يشترون محصول الكاكاو من المزارعين في ساحل العاج هم لبنانيون
70 في المئة ممن يشترون محصول الكاكاو من المزارعين في ساحل العاج هم من اللبنانيين. يتعاون هؤلاء التجار مع الحكومة العاجية والمنظمات الدولية لتطوير وحماية قطاع الكاكاو، يلتزمون محاربة عمالة الأطفال في قطاف الكاكاو وينظمون حملات توعية ضد التسرب المدرسي. أكثر من تاجر لبناني شيد مدرسة ومراكز صحية لتنمية الأرياف. كذلك يوزعون على المزارعين مبيدات زراعية لرشها على الأشجار ويشقون الطرقات التي تسهل دخول أحراج الكاكاو السحيقة حيث يبقون في مجاهلها لأيام عدة. يلتزم التجار بناء منزل مجهز للمبيت ومراحيض.

منافسة اللبنانيين

تأثرت زراعة الكاكاو بالتغير المناخي. عام 2013 سجل انخفاضاً في الإنتاج بنسبة 30 في المئة. الانخفاض قابلته زيادة في استهلاك العالم للشوكولاتة. ما ينذر بأزمة عالمية في السنوات المقبلة. رجحت التوقعات أن يرتفع إنتاج الكوت دي فوار عام 2014، بنسبة 7 في المئة. علماً بأن هبوط سعر الكاكاو في السوق العالمية في السنوات الماضية، تسبب بأزمة اقتصادية خانقة.
حالياً، تتعرض الصناعة لمنافسة قوية في السوق العالمية بين ثلاث شركات إيطالية وأميركية وسويسرية. فيما فرض على التجار المحليين، منهم اللبنانيون، إجراءات حكومية مشددة. الشركات الفرنسية لا تزال النافذ الأكبر في القطاع منذ عهد الاستعمار. لكن كيف يتأثر اللبناني بالصراع على أحد أبرز السلع الاستراتيجية في العالم؟ زينات جابر (32 سنة) أول سيدة لبنانية تصدر محصول الكاكاو إلى الخارج. توضح أن نظام الرئيس الحالي الحسن واتارا بات يتدخل في القطاع مباشرة ويفرض نسبة على الأرباح. فيما أرخى النظام السابق في عهد الرئيس لوران غباغبو الاقتصاد الليبرالي. نظام البورصة يتحكم حالياً بالقطاع. الحكومة سعرت الطن الواحد بـ880 فرنكاً في الحرج وبـ930 فرنكاً عندما يصل حبوباً موضبة إلى أبيدجان. الطن الواحد المعد للتصدير سعّر بـ1700 فرنك. تلك الأسعار قابلة للتغيير بشكل مستمر. الدولة فرضت ضرائب تبلغ نسبتها 15 في المئة على الشركات والتجار. شروط جديدة تفرضها الدولة بين الحين والآخر. في المحصلة، لا يستطيع سوى كبار التجار الصمود في لعبة الكبار.




من البذور إلى العالم

ينتج العالم سنوياً من الكاكاو ما بين ثلاثة ملايين و800 ألف طن و4 آلاف. ساحل العاج وحدها تنتج حوالى مليون و800 ألف طن أي ما يعادل 40 في المئة. أما ميناء سان بيدرو الأول عالمياً بتصدير الكاكاو، يدر أرباحاً سنوية بحوالى 300 مليون يورو. انطلاقاً منها، يمد اللبنانيون شبكات كاكاو متكاملة بين مناطق البر. خيرات المزارع في سوبري والدلوة وديكوي وبابوا وساسندرا وأبدوفيل وإيسيا وفافوا وغيفلو وما... تحط في سان بيدرو. منها إلى أوروبا وأميركا وإندونيسيا وماليزيا و... تركيا (السوق الأبرز الذي يستورد منه تجار ومصانع لبنان مثل معمل غندور).
حالياً تعتبر ساحل العاج ثم غانا، البلدان الأكثر إنتاجاً. يدخل اللبنانيون في مختلف مراحل تصنيع بذور الكاكاو. وجهة الاستخدام تحدد تحويل الكتلة إلى شوكولاتة أو بودرة كاكاو. تصنع الشكولاتة بشكلها النهائي عن طريق خلط البودرة والزبدة مع الحليب والسكر من قبل أكبر الشركات (نستله-فيريرو-باري كالبو-مارس- أولكر...).